قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: {إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد}.
من يحكي مثل هذه الكلمات؟! أرأيتم أجمل من هذه الكلمات؟!
{لا يُرى عليه أثر السفر}.
السفر يا إخوان سفران: سفر له أوبة وهو السفر القصير، وهو سفرك من مكان إلى مكان، من الدمام إلى الرياض، فهو سفر مؤقت، وسفر لا أوبة بعده، وهو السفر إلى الدار الآخرة.
كان الحسن البصري يبكي إذا ودع أصحابه، ويقول:
وخفف وجدي أن فرقة واحد فراق حياة لا فراق ممات
يقول: أنا أبكي عليكم لكن السهل أنكم سوف تعودون.
قل لي بالله! من تفارقه من أصحابك وأحبابك وأبنائك كيف يكون شعورك بعده؟
لا لقاء إلا أن تكون صالحاً ويكون صالحاً، فيجمع الله بينكما في الجنة {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21].
التهامي رجل مفلق، التهامي من أكبر شعراء العرب، كان يحب ولده كما يحب الإنسان ولده، فلما مات ابنه؛ دفنه في حوش البيت من شدة حبه له، ودفنه قريباً من المجلس، لكن وهل ينفع ذلك؟ سواء دفنه وراء ألف ميل أو عند المجلس سيان، لكن انظر إلى شغف الوالد بولده! يريد أن يستأنس بقبر ابنه، فلما دفنه قريباً منه كان يبكي عليه في الليل والنهار، وكان يقول:
جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري d
يقول: جاورته في البيت، لكن ما رضي جواري بل جاور الله.
قال ابن كثير: رؤي التهامي في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي.
قالوا: بماذا؟ قال: ببيتي المشهور:
جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري
امرأة الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب فقدت زوجها، فبكت عليه سنة، ونصبت خيمة حول قبره، وهذه أفعال لم يقرها الإسلام، وبعد أن انتظرت سنة هل يخرج لها الحبيب من القبر؟ لم يخرج، ولم يكلمها ولو ليلة، سكوت
أتيت القبور فناديتها أين المعظم والمحتقر
تفانوا جميعاً فما مخبر وماتوا جميعاً ومات الخبر
فيا سائلي عن أناس مضوا أما لك فيما مضى معتبر
مكثت سنة تنتظر أن يكلمها بكلمة فما كلمها.
يقول المتنبي: مال أهل القبور لا يتحدثون؟ ما لهم لا ينطقون؟
أقول: يا متنبي! يقول الله: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سبأ:54].
يقول المتنبي:
خرس إذا نودوا كأن لم يعلموا أن الكلام لهم حلال مطلق
لكن لا يتكلمون نصبت خيمتها سنة، ثم اقتلعت الخيمة؛ فسمعت هاتفاً يهتف -والعهدة على أبي الفداء ابن كثير - قال هاتف لأخيه: هل وجدوا ما فقدوا؟
قال: لا.
بل يئسوا فانقلبوا.
قال: {لا يرى عليه أثر السفر} والإنسان في سفر، يقول سيد قطب -متعه الله بالجنة- عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] يقول كلاماً ما معناه: يا أيها الإنسان!
يا من حمل غمومه وهمومه! يا من حمل مقاصده! يا من حمل تبعاته! يا من حمل تصرفاته! إنك كادح إما في الخير أو في الشر كدحاً فملاقيه.
أرى كلنا يبغي الحياة بحبه حريصاً عليها مستهاماً بها حباً
وحب الجبان النفس أورده البقا وحب الشجاع الحق أورده الحربا
كلنا كادح، الذي في البارة والخمارة كادح، صاحب المخدرات كادح، صحاب السيجارة كادح، الذي يرقص على الأغنية الماجنة كادح، الذي يسهر أربع ساعات على البلوت كادح، والمصلي كادح، والذي يبكي في آخر الليل كادح، والذي يجلس مع هذه الطلعات الإيمانية الرائدة كادح، والذي يقرأ ويعلم الناس كادح، ولكن اللقاء عند الله الواحد الأحد.
وفي صحيح مسلم: {أن الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر الرجل يطيل السفر-قالوا: سفر الآخرة أو سفر الدنيا، في جمع الأموال أو في العبادة- أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب له؟!}.