الفائدة الثانية: قبول معذرة المسلم:
فقد كاد حاطب رضي الله عنه وأرضاه أن يُودي بالإسلام والمسلمين في داهية، ولكن مع ذلك قَبِل صلى الله عليه وسلم معذرته.
ومن حسن إسلام المرء أن يقبل اعتذار من يعتذر إليه؛ فإنه ما اعتذر إليك إلا لجلالتك في قلبه، ولمحبتك إليه، والله عز وجل سِتِّيْرٌ يحب الستر، وعذر العاذرين في الدنيا، ويسامح المسامحين، وييسر على الميسرين، والجزاء من جنس العمل.
فإذا اعتذر إليك مسلم قد أخطأ، فاقبل عذره، واحمله على أتم المحامل فإن هذا من شيم الصالحين، بل إنه من شيم العرب من قبل ذلك.
فـ النابغة الذبياني لما أساء مع النعمان بن المنذر، قبل النعمان معذرته، فيقول:
لئن كنتَ قد بلغت عني وشايةً لمبلغك الواشي أغش وأكذبُ
فقَبِل النعمان عذره، فيقول:
حلفتُ فلم أترك لنفسك ريبةً وليس وراء الله للمرء مذهبُ
والرسول عليه الصلاة والسلام قبل أعذار الناس، حتى الذين كادوا له، والذين دبروا اغتياله، وأخرجوه من دياره.
وفي حديث في سنده نظر: أن كعب بن زهير قدم على الرسول عليه الصلاة والسلام وقد أساء، وأهدر دمه، فلما وصل إلى المدينة قال للصحابة: ماذا أفعل؟ والرسول عليه الصلاة والسلام قد أهدر دمي، والله ما تهنيتُ بطعام ولا شراب، ولا اكتحلتُ بنوم؛ لأنه كان يمضي في الليل وينام في النهار، قالوا: أنت شاعر مجيد، اصنع لك أبياتاً وقدمها للرسول عليه الصلاة والسلام، فأتى في صلاة الفجر، فلما صلى صلى الله عليه وسلم ألقى عليه تلك المقطوعة الرائعة:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ مُتَيَّمٌ إِثْرَها لَمْ يُفْدَ مكبولُ
إلى أن يقول:
نبئتُ أن رسول الله أوعدني والوعد عند رسول الله مأمولُ
مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة الـ ـقرآن فيها مواعيظٌ وتفصيلُ
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم أذنب ولو كثُرَت فيَّ الأقاويلُ
فعفا عنه صلى الله عليه وسلم وسامحه، ومع ذلك حَطَّ له جُبَّتَه من عليه، فبِيْعَت بأربعين ألفاً في عهد معاوية، وبقيت يتداولها خلفاء الدولة العثمانية في الأتراك، وقيل في بعض الروايات: إنها لا تزال في المتحف في اسطنبول، والله أعلم.