ووصل بعض الناس، وأسلموا عند الرسول عليه الصلاة والسلام يوم الفتح، فقبل إسلامهم، وعاد عليه الصلاة والسلام وإذا الأنصار قد اجتمعوا، فقال: ما لكم رحمكم الله؟ فإذا التأثر قد ظهر عليهم، وبعضهم قد دمعت عيناه، وقالوا: يا رسول الله! سمعنا أنك تقول: سوف تقيم في مكة وتتركنا في المدينة، وكان المتكلم سعد بن عبادة -كما قيل- وقال: يا رسول الله! نصرناك، وآويناك، وبعدها تقيم مع أهل مكة وتتركنا؟ قال عليه الصلاة والسلام: {الحياة حياتكم، والموت موتكم}.
ولذلك أكثر من يَرِدُ الحوض والرسول عليه الصلاة والسلام واقف يسقي الناس جماعات، الأنصار، وهو يقول لهم في الدنيا: {اصبروا حتى تلقوني على الحوض} فهو العلامة الفارقة بين الأنصار والوعد، والرمز الذي جعله صلى الله عليه وسلم هو الحوض المورود، وطوله شهر، وعرضه شهر، والرسول عليه الصلاة والسلام على الصحيح يسقي الناس بيده صلى الله عليه وسلم، فهو يسقيهم بيده يوم القيامة، نسأل الله أن يسقينا بتلك اليد الشريفة، وبذاك الحوض المورود شربة لا نظمأ بعدها أبداً.
{فلما أقنعهم صلى الله عليه وسلم فرحوا وارتاحوا، وأتى رجل آخر، فقال: أين تنزل غداً يا رسول الله؟ -يقصد: في مكة، هل لك أملاك تنزل فيها؟ - قال: وهل ترك لنا عقيل من رِباع؟}
وعقيل بن أبي طالب، ابن عم الرسول عليه الصلاة والسلام، أخو علي وأبو طالب مات مشركاً كما تعرفون وقد خلَّفَ أربعة أبناء:
أما اثنان فسبقا إلى الإسلام، وكانا نجمين ساطعين في تاريخ الدعوة المحمدية والرسالة الخالدة:
جعفر الطيار: الذي مُزِّق وقُطِّع في مؤتة، والذي ارتفع إلى الله وله جناحان، يطير بهما في الجنة حيث يشاء.
أبو الحسن علي بن أبي طالب: الزاهد العابد، صانع الكلمة الحارة.
وأما الآخران فكانا غير مسلمَين:
طالب: مات مشركاً.
عقيل: كان همه بيع الأملاك، أملاك الرسول عليه الصلاة والسلام في مكة، وأملاك علي بن أبي طالب، يوزعها على الكفار، فباعها جميعاً.
فهم جميعاً أربعة:
طالب أكبر من عقيل بـ (10) سنوات.
وعقيل أكبر من جعفر بـ (10) سنوات.
وجعفر أكبر من علي بـ (10) سنوات.
وعلي الأصغر.
فبين الأكبر والأصغر (40) سنة.
فلما سُئِلَ الرسول صلى الله عليه وسلم: أتنزل في دارك؟ -أي: قبل أن تهاجر- قال: {وهل ترك لنا عقيل من رباع؟} أي: ما أبقى لنا شيئاً، لا بيتاً ولا وادياً، والله المستعان.
لما حانت صلاة الظهر سكت الناس جميعاً، وأمر صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يقوم فيؤذن على الكعبة.
وكان يستطيع أن يؤذن على البساط أو بجانب سارية؛ لكن هكذا؛ ليكون صوت الحق عالياً، وكأنه يقول: هذا العبد الفقير الحقير الذي أخرجتموه، والذي ردَّد: أحدٌ أحد، يردد الآن صوت الحق.
وكان بلالٌ قليل اللحم، فقيل: لَمَّا تسلق الكعبة كان كأنه صقر، لم يكن هناك سُلَّم، وإنما وثب وثباً حتى صعد.
فلما صعد أخذ يصدح بصوته الندي الشجي الذي يأخذ بأطناب القلوب.
فيقول عتاب بن أسيد، أحد سادات مكة: لقد كان من الفتح أن يموت أسيد قبل أن يسمع هذا الغراب يؤذن على هذا المكان.
ويقول عمرو بن سعيد بن العاص: لقد كان سعيد موفقاً يوم أن لم ير هذا السواد على هذا البيت، وسعيد هو أبوه، وكان قد قتل في بدر.
ويقول أبو سفيان: دعوه، فإن كان موفقاً أَتَمَّ، وإلا فسوف يخسف الله بهم الكعبة، بمعنى: أن الرسول صلى الله عليه وسلم إن كان موفقاً في دعوته أَتَمَّ الله له، وإلا فسوف يخسف الله بهم الكعبة؛ لأنهم أطلعوا العبد على الكعبة، انظر إلى الورع والزهد!!
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال:35] أي: هل هؤلاء أهل صلاة وأهل عبادة؟!
إنهم لا يعرفون إلا تصفيقاً وغناءً.
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {سَامِراً تَهْجُرُونَ} [المؤمنون:67].
ولذلك ليسوا بأوليائه؛ إنما أولياؤه: محمد عليه الصلاة والسلام وأصحابه.
فلما أذن ذلك اليوم، كان يوماً مشهوداً في تاريخ البشرية، وكان ميلاد مكة ذلك اليوم، وكان هو الفتح، فإنها - كما يقول أبو ريشة:
فاستفاقت على صباح جديد ملء آذانها أذان بلالِ
لأنه قبل هذا البيت قال:
قال: ياعمِّ! لا تدعني هنا وحدي ما لي سواك من مفضالِ
فتلقاه بالدموع وسارت بهما الخيل في شعاب التلالِ
فاستفاقت على صباح جديد ملء آذانها أذان بلالِ
فرضي الله عن بلال، وأكرم مثواه، وحشرنا معه، ومع كل صِدِّيق.
وعاد عليه الصلاة والسلام بعد هذا الفتح، وأحداثه تطول؛ لكن فيها دروس وعبر، وسيرته صلى الله عليه وسلم مناطها يدور على ثلاثة أمور:
الأمر الأول: العقيدة:
فإن المعتقد يطلب من السيرة.
الأمر الثاني: الأحكام:
فإن السيرة مليئة بالأحكام.
قال ابن سريج الشافعي: من أراد دقائق الأحكام فليقرأ السيرة.
الأمر الثالث: الآداب والسلوك والتربية:
فإنها في السيرة.