دخل عليه الصلاة والسلام مكة والصحيح أنه أول ما دخل لم يكن محرماً، بل كان في لباسه، وكان عليه الدرقة، وعمامة سوداء، أي: كانت عليه صلى الله عليه وسلم الخوذة العسكرية، وكانت عليه عمامة سوداء، قد أرخى ذؤابتها من وراء كتفيه، وأخذ صلى الله عليه وسلم يدعو الله، فلما رأى البيت هلل وكبر وسبح ثم بدأ يطوف.
وأما الصحابة فأخذت جيوشهم تدخل من كل جهة، فدخل الزبير من جهة الحجون، فأخذ على الأبواب بجنوده، ودخل خالد بن الوليد - رضي الله عنه - وسعد بن عبادة، وابنه قيس وأبو عبيدة، فلما تكامل الناس، أمر صلى الله عليه وسلم بغلق الأبواب، ألا يمضي أحدٌ، ولا يدخل ولا يخرج، وقام عليه الصلاة والسلام فدخل في نواحي البيت، ومعه قوس.
وكان - كما قيل عند بعض أهل العلم - يطوف على ناقته، فأخذ على الأصنام وكانت ثلاثمائة وستون صنماً.
وانظر إلى هذه الأصنام كيف تركها عليه الصلاة والسلام ثلاث عشرة سنة في مكة، كان يدعوهم إلى (لا إله إلا الله) وأتى وهذه الأصنام في أماكنها، فما غير صنماً منها؛ لأن تغيير الباطل ليس بهذا الأسلوب، لأنه قد يكسرها من الواقع؛ لكن لا يكسرها من القلوب، وإذا كسرها وهاجمها يغضب إليها ألوف وألوف، فيقعون في إرباك ومشقة.
فدخل عليه الصلاة والسلام فأخذ يسدد رمحه، وقيل: سِيْتَه، وقيل: قوساً في يده، إلى وجوه الأصنام ويقول: {جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً} فكان قبل أن يصل القوس إلى الصنم يسقط الصنم على وجهه، وربما سقط على قفاه، ودخل عليه الصلاة والسلام فأمر بغلق باب الكعبة، ودخل معه أسامة وبلال بن رباح، وانظر إليه كيف يعظم ويوقر المعظمين في الإسلام، فإنه أدخل أسامة وبلالاً وهما من الموالي، ولم يدخل أبا بكر ولا عمر، فأتى عليه الصلاة والسلام فوجد صورة إبراهيم عليه السلام وابنه إسماعيل عليهما السلام، وهما مصوران، وبأيديهما الأزلام يستقسمان بها، على مذهب الجاهليين الوثنيين، فقام صلى الله عليه وسلم يمحو الصور ويقول يقصد كفار قريش: {قاتلهم الله! لقد علموا إن استَقْسَما بالأزلام قط} كيف يستَقْسِمُون بالأزلام، وإبراهيم أستاذ التوحيد في الدنيا، وهو الذي أتى بـ (لا إله إلا الله) وقررها في البشرية، ويظهرونه في مظهر المشرك، وهذه هي الدعايات الأثيمة، يوم يأتون ببعض الصور أو ببعض الدعايات عن الدعاة أو العلماء أنهم فعلوا كذا وكذا؛ ليغرروا بها الناس، فيقولون: هذه صورة إبراهيم، وهذه صورة إسماعيل، يسْتَقْسِمان بالأزلام.
ثم أمر صلى الله عليه وسلم بإخراج الأصنام من الكعبة، فأخرجت، فقام فصلى، وهذا على الصحيح؛ لأن بعض الحفاظ عند البخاري ومسلم أنكروا الركعتين داخل الكعبة, والصحيح: أنه ركع عليه الصلاة والسلام.
ففي (الصحيح) من حديث ابن عمر، قال: {دخلت بعدما خرج صلى الله عليه وسلم، فقلت لـ بلال: أين صلى صلى الله عليه وسلم؟ قال: صلى هنا، فوجدتُ أنه ترك عن يمينه عمودين, وعن يساره عموداً، ووراءه ثلاثة أعمدة، واستقبل الباب} أي: استقبل صلى الله عليه وسلم باب الكعبة -الآن من داخل الكعبة- وصلى ركعتين، ثم خرج وقد سكت الناس، وامتلأ الحرم بالناس، ما بين رجال من كفار قريش وأطفال ونساء، وأما المقاتلون فوقفوا عند الأبواب، من المهاجرين والأنصار، وقبائل العرب، فأخذ صلى الله عليه وسلم بحلق الكعبة، فسكت الناس فقال: {الحمد لله الذي نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، ثم التفت إلى كفار قريش، وقال: ما ترون أني فاعل بكم؟ -معناه: أنكم آذيتموني وشتمتموني وطردتموني وقاتلتموني، فاليوم هذا جيشي، والسيف بيدي، وما بأيديكم شيء، فما الذي تتوقعون أن أفعل بكم؟ - فارتفع البكاء حتى اختلط بكاء الرجال بالنساء والأطفال، وقال كبراؤهم: أخٌ كريم وابن أخٍ كريم -يقولون: اعفُ عنا، أنت أخونا، ولكنهم ما تذكروا في بدر كلمة أخ كريم وابن أخٍ كريم، ولا في أحد، ولا في الخندق، أما اليوم فتذكروا لما رأوا السيف الأملح أنه أخٌ كريم- فقال عليه الصلاة والسلام: اذهبوا فأنتم الطلقاء} فتباكوا أكثر، فقام أبو سفيان فقال: ما أرحمك! وما أوصلك! وما أبركك! فنسي عليه الصلاة والسلام كل ما ذاقه، فأنزل الله عليه قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] وقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] وقوله جل ذكره: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].