تقسيم الجيش

وعندما نزل عليه الصلاة والسلام قسَّم جيشه إلى أربع كتائب:

الكتيبة الأولى: يقودها سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه وهي (كتيبة الموت) كما سماها أبو سفيان -و (الموت الأحمر) كان كامناً في هذه الكتيبة كما يقول ابن حجر - وقائدها سعد بن عبادة الخزرجي رضي الله عنه وأرضاه.

الكتيبة الثانية: يقودها خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه ودخل من الخندمة، وهي التي قاتلت أشد القتال يوم الفتح.

الكتيبة الثالثة: يقودها أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه.

الكتيبة الرابعة: يقودها الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه حواريِّ الرسول عليه الصلاة والسلام وقد أتت من جنوب مكة.

فلما نزلوا طوَّقوا مكة من كل النواحي، وأمر الرسولُ عليه الصلاة والسلام الجيشَ أن يشعل كل واحد منهم ناراً تتوقد، فقام كل جندي وجمع حطباً وأشعل ناراً، فأخذت جبال مكة تلمع في الليل، حتى أصبح كأنه نهار، فخرج أبو سفيان، وأخبره بعض الرعاة: أنهم يرون ناراً في جبال مكة، فقال للعباس: يا أبا الفضل! اخرج معي فإني سمعتُ أن هناك نيراناً في نواحي مكة، فخرجوا ومعهم حكيم بن حزام وبُدَيْل بن وَرْقاء، فنظروا إلى الجبال، قال أبو سفيان: ما هذه النيران؟ كأنها نيران عرفة، أي: يوم الحج، فقال حكيم: أظنها نيران بني عمرو، قال: بنو عمرو أذل وأقل من ذلك، قال: أظنها نيران خزاعة، قال: خزاعة أذل وأقل من ذلك، فقال العباس لما علم أنه الرسول عليه الصلاة والسلام: يا أبا سفيان، أنقذ نفسك، والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلنك بكرةً نهاراً، قال: وما الحل يا أبا الفضل! فداك أبي وأمي؟ قال: اركب معي، فهذه بغلة الرسول عليه الصلاة والسلام، وكانت بغلته شهباء، فركب في عجزها، ومر بالمخيمات والمعسكرات خيمة خيمة ومعسكراً معسكراً، لا يعرفه الأنصار، لا يعرفون أبا سفيان إلا النادر منهم، ولا تعرفه قبائل العرب.

فلما مر بخيمة عمر، ثار عمر إلى خيمته فاختلع سيفه سالاًّ إياه، وأتى وراء البغلة، فلما رأى العباسُ أن عمر يطاردهم، حرك البغلة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وعمر ينادي في الناس: عليكم بـ أبي سفيان، عدو الله، أمكن الله منه، فدخل أبو سفيان وراء العباس في خيمة الرسول عليه الصلاة والسلام حيث القيادة، وحيث الحِلْم والكرم.

من زار بابك لم تبرح جوانبه تروي أحاديث ما أوليتَ من مِنَنِ

فالعين عن قرة والكف عن صلة والقلب عن جابر، والسمع عن حسنِ

فنزل العباس، وأنزل أبا سفيان، فلما رآه صلى الله عليه وسلم تربع، وقال: {يا أبا سفيان! أما علمتَ إلى الآن أن (لا إله إلا الله)؟ أما علمتَ أنه لا أكبر من الله؟ فما لك تفر يا أبا سفيان؟ فدخل عمر ولم يَرُد أبو سفيان، فقال عمر: يا رسول الله! أمكني من عدو الله ومن عدو رسوله والمسلمين، هذا أبو سفيان أمكن الله منه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: اجلس يا عمر} والسيف مسلول بيد عمر رضي الله عنه وأرضاه.

قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها

فنزل وجلس، فأخذ عمر يُلِحُّ، لا يريد الصلح مع أبي سفيان، يريد قَتْله، فقال العباس غضباناً: {هوِّن يا عمر! فوالله لو كان من بني عدي بن كعب ما فعلتَ ذلك -يقصد: أسرة عمر - فقال عمر: وهوِّن أنت يا عباس! فوالله لإسلامك أحب إلي من إسلام أبي الخطاب؛ لأن إسلامك أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام أبي، وما يحبه صلى الله عليه وسلم أقدم مما أحبه أنا، ثم تكلم صلى الله عليه وسلم مع أبي سفيان، فقال: ألا تقل: لا إله إلا الله؟ فقال أبو سفيان: ما أحلمك! وما أكرمك! وما أوقرك! وما أجلك! -ومن هذا الكلام الذي يريد أن يستدر عطف الرسول عليه الصلاة والسلام به، فقال العباس: يا أبا سفيان، أسلم، لا يقتلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: اشهد أني رسول الله، قال: أما هذه ففي النفس منها شيءٌ، قال العباس: يا أبا سفيان! أسلم، قال: وأشهد أنك رسول الله -دفعها؛ لأنه خاف من السيف المصلت- فقال عليه الصلاة والسلام لما خرج أبو سفيان، وقد حقن دمه بالإسلام، قال لعمه العباس: يا عم! احبسه عند غدير الخُطَم} وقيل: {عند العُقُنْقُل} وقيل: {عند مجرى الوادي حتى تمر عليه الكتائب في الصباح} لأن الرسول عليه الصلاة والسلام خشي منه أن يذهب فيدبر جيشاً يصادم جيش الرسول عليه الصلاة والسلام فيريد أن يرهبه برؤية الجيش يوم يَمُر، فذهب به العباس فأنزله عند الخُطُم، فأوقفه.

ولما ظهر الصباح، وأشرقت الشمس أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الجيش أن يتحرك إلى مكة، لأن الله يقول: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح:1].

واستفاقت على صباح جديد ملء آذانها أذان بلالِ

فوقف أبو سفيان ومعه العباس فمرت (كتيبة جهينة) وهم ألف مقاتل، لا يرى منهم إلا الحدق، أي: مدجَّجون بالسلاح، قال: من هذه؟ قال: جهينة، قال: وما لي ولجهينة، بمعنى: هل أنا قاتلتُ جهينة؟

ثم مرت كتيبة غِفار فقال: من هذه؟ قال: غِفار، قال: وما لي ولغِفار، حتى مرت كتيبة الموت معها سعد بن عبادة، وهم الأنصار، وهي أعظم كتيبة وجدت في الجيش، فلما مرَّ سعد بن عبادة زاحم أبا سفيان عند مضيق الوادي، حتى كاد أن يُتْلِفَه من مكان هناك، ثم قال: يا أبا سفيان! اليوم يوم الملحمة، يقصد: يوم القتل، فصفَّق أبو سفيان بيديه، وقال: أُبيدت خضراء قريش، أي: معناه القتل، وذهب أبو هريرة يسعى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وهو في آخر الجيش، وقال: يا رسول الله! أما سمعتَ ماذا يقول سعد بن عبادة؟ قال: ماذا يقول؟ قال: اليوم يوم الملحمة، قال: خذ الراية من سعد بن عبادة -كالمؤدِّب والمعزِّر له- واعطها ابنه قيس بن سعد، فانظر إلى الحكمة، لو أخذها منه إلى غيره لغَضِبَ سعد، ولو تركها عنده خاف أن يُفْشِي قتالاً؛ لأن الرجل جديرٌ وشجاع ومن أرهب الرجال، فأخذها منه تعزيراً له، ودفعها إلى ابنه لئلا يجد في نفسه، فأخذها قيس بن سعد، ومضى عليه الصلاة والسلام فلما مرَّ بـ أبي سفيان قريباً منه، قال أبو سفيان: من هذا؟ قال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرون، وكان بعيداً عنه قليلاً، فقال: من هذا الرجل الذي يتبسم إليه ويتبسم إليه أي: أن هذا يتبسم لهذا وهذا يتبسم لهذا، قال: هذا أبو بكر، قال: لقد عظم قدر ابن أبي قحافة، أي أنه كان في الجاهلية ما له ذاك الصيت كـ أبي سفيان، والآن هو من القواد الكبار مع الرسول عليه الصلاة والسلام

طور بواسطة نورين ميديا © 2015