نقض قريش للصلح

وفتح مكة كان في السنة الثامنة للهجرة، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وذلك أنه عاد صلى الله عليه وسلم من صلح الحديبية، ولما اصطلحوا كان من ضمن بنود الصلح: أن تضع الحرب أوزارها عشر سنوات، ولكن كفار قريش غدروا، وأتوا إلى حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من حلفائه خزاعة، فكانت بطن نصحٍ للرسول عليه الصلاة والسلام، وبنو بكر كانوا حلفاء لقريش.

فقام بنو بكر بقتل رجال من خزاعة، وهذا معناه نقضٌ للصلح الذي تم ووقع عليه كلا الطرفين، طرف الرسول عليه الصلاة والسلام، والطرف الآخر طرف المشركين ووقع عنهم سهيل بن عمرو.

فلما قتلوا هذا القتيل خاف أبو سفيان وهو في مكة أن يأتي الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وإذا أتى الرسولََ صلى الله عليه وسلم الخبرُ بأن أحلاف قريش قتلوا رجالاً من حلفائه، فسوف يغضب عليه الصلاة والسلام، ويعلن الحرب على أبي سفيان وعلى القرشيين.

فسبق بُدَيْل بن وَرْقاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فوصل إلى المدينة في الليل وأخبره، قال: {يا رسول الله! نقضت قريش عهدك ووعدك، وقتلوا رجالاً منا فسكت عليه الصلاة والسلام واحمر وجهه مُغْضَباً} فرجع بُدَيْل بن وَرْقاء مندوب خزاعة، فلقيه أبو سفيان، وقال له: من أين أتيت؟ -وأبو سفيان كان ذكياً من أذكياء الناس، ورجلاً داهيةً- قال: من أين أتيتَ يا بُدَيْل؟ قال: كان لي مال بالغابة ذهبت إليه، ثم مررت على خزاعة أسلم عليهم -يعني: قبيلته- فنزل أبو سفيان إلى بَعَر بَعِير جمل بُدَيْل، ففَتَّه، فوجد النوى فيه، قال: كذبتَ؛ ولكنك كنتَ في المدينة تخبر محمداً.

ثم ركب أبو سفيان ناقته وذهب إلى محمد عليه الصلاة والسلام فوصل إلى المدينة، فلم يجد أحداً في البيوت، حيث كانوا في اجتماع مع الرسول عليه الصلاة والسلام في المسجد، فدخل على ابنته -وابنته كانت زوجة الرسول عليه الصلاة والسلام- فلما رأته ما استقبلته ذاك الاستقبال الحافي، وما رحبت به، وما هشت وبشت في وجهه؛ لأنه كافر، وهذه علامة الموالاة والصدق مع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فدخل وبيده عصا، وقد ربط ناقته، فأتى إلى مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى فراشه، فسبقته إلى الفراش فلفَّتْه وسحبته عنه، فقال: لقد أصابك بعدي شر، كيف تسحبين عني فراش زوجك؟ قالت: هو طاهر وأنت مشرك نجس، فأخبرها الخبر، فقالت: ما أجد لك إلا هؤلاء النفر يشفعون عند الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: من هم؟ قالت: اذهب إلى أبي بكر ليشفع لك؛ لأنه خاف أن يهاجمه صلى الله عليه وسلم بجيش في مكة.

فذهب أبو سفيان إلى أبي بكر فأخبره الخبر، قال: وتظنني يا أبا سفيان أشفع لك عند الرسول عليه الصلاة والسلام؟ قال: نعم، قال: والله ما أنا بفاعل، فذهب إلى عمر رضي الله عنه وأرضاه فأخبره الخبر، وأبو سفيان عنده، قال عمر: ماذا تريد؟ قال: تشفع لي عند الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: اللهم ما كان بيننا وبينك من عهد نسأل الله أن يقطعه، وما كان بيننا وبينك من حبل نسأل الله ألا يتمه، والله لو أني لا أجد إلا الذر لحاربتكم بالذر، فقال أبو سفيان: جزاك الله من رحم شراً، ثم خرج من عنده فوصل إلى عثمان، فأخبره، قال: لا أشفع، فذهب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عن الصحابة أجمعين فوصل إلى علي فوجده في البيت، فأخبره الخبر، قال: ما أجترئ، فقام أبو سفيان إلى فاطمة بنت الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: يا فاطمة! اشفعي لي إلى أبيكِ ألا يطأنا بالخيل بكرة النهار، قالت: ما أجرؤ، قال: فقومي بابنك الحسن، فضعيه في حِجْر جده؛ ليكون هذا الحسن سيداً أبد الدهر ليشفع بين الناس، قالت: ما بلغ السن أن يشفع، فقال: يـ ابن أبي طالب: أنت أقرب الناس مني رحماً -وهذا صحيح؛ لأنهم أبناء عم، هؤلاء من بني عبد شمس.

من الأعياص أو من آل شمس أغَر كغُرَّة الفرس الجواد

وهؤلاء من بني هاشم -فقال علي: وجدتُ لك حلاً، قال: وما هو؟ قال: اذهب فإذا صلى الناس العصر، فقل: أجرتكم أيها الناس -وأراد علي أن يضحك عليه أمام الناس رضي الله عن علي -فلما صلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالناس العصر، قام أبو سفيان، فوقف في المحراب، والتفت إلى الناس -وهو لم يصل معهم- وقال: قد أجرتُ ما بينكم أيها الناس، فتبسم عليه الصلاة والسلام، وقال: {أتقول ذلك يا أبا حنظلة؟} قال: نعم، ثم ولى إلى مكة.

وصل إلى أهل مكة، وأهل مكة على أحر من الجمر؛ لأنهم يعلمون أن الرسول عليه الصلاة والسلام أتاه الخبر بقتل الخزاعي، وهذا معناه نقض الصلح وبداية المعركة.

فوصل أبو سفيان إليهم، فقالوا: ما الخبر؟ فأخبرهم، قال: وجدتُ الناس قريبين إلا عمر فوجدته أدنى العدو، قالوا: فماذا فعلتَ؟ قال: تكلمتُ في الناس، فأجرتُ فيما بينهم، قالوا: فماذا؟ قال: محمد! يعنون: رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تبسم، وقال: {أهكذا تقول يا أبا حنظلة؟} قالوا: قد ضحك عليك ابن أبي طالب، وما أجدى موقفُك منك شيئاً، فتَرَصَّدْ.

صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر في اليوم الثاني، فلما انتهى من الصلاة، وإذا رجل خزاعي اسمه: عمرو بن سالم، من القوم الذين قتل منهم القتيل، دخل بعصاه، وعقل ناقته في طرف المسجد، ورفع صوته ينشد، ويقول:

يا رب إني ناشد محمدا حِلف أبينا وأبيه الأتلدا

فانصر هداك الله نصراً أيدا وادع عباد الله يأتوا مددا

فيهم رسول الله قد تجردا أبيض مثل البدر يسمو مصعدا

إن سيم خسفاً وجهه تربدا في فيلق كالبحر يجري مزبدا

إن قريشاً أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا

وهم أذل وأقل عددا هم بيتونا بالوتير هجدا

وقتلونا ركعاً وسجدا

فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم، وقال: {نصرت يا عمرو بن سالم!} ثم التفت عليه الصلاة والسلام فوجد السحابة قد مرَّت من أمام المسجد متجهة إلى مكة -سحابة في السماء- فقال: {هذا النصر على كفار قريش} ثم التفت عليه الصلاة والسلام ورفع يديه، ثم قال: {اللهم خذ عليهم أسماعهم وأبصارهم، فلا يعلموا بنا حتى نطأ أرضهم} فأخذ الله أسماعهم وأبصارهم.

ولكن حاطب بن أبي بلتعة -وهو أحد الصحابة الأخيار من أهل بدر - تذكر أن له أطفالاً ونساءً في مكة، فأراد أن يمنعهم من كفار قريش؛ ليتخذ عند كفار قريش يداً، فكتب رسالة -الرسالة السابقة- وأتى الوحي من السماء على لسان جبريل، يخبر الرسول عليه الصلاة والسلام أن حاطب بن أبي بلتعة قد كتب رسالة يخبر كفار قريش، ومعناه: إذا أخبرهم اعدوا واستعدوا وتواجهوا في الطريق، والرسول عليه الصلاة والسلام يريد أن يفاجئهم فلا يشعرون به إلا وقد طوق مكة من كل جوانبها، فأخبره جبريل، فأرسل صلى الله عليه وسلم علياً وهو فارس الطوارئ، هو والزبير بن العوام، البطل الحواري، والمقداد رضوان الله عليهم جميعاً، فأخذوا الرسالة، وعرضوها على الرسول عليه الصلاة والسلام، فاستدعى حاطباً، فأعلن معذرته، فصدَّقه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن عمر لحماسه للإسلام، ولغضبه لله ولرسوله ما صدَّقه، حتى أنه قال له صلى الله عليه وسلم: {أما تدري يا عمر! لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم} فهذه من الذنوب التي غفرها الله لـ حاطب.

ولذلك ضربَ حاطبٌ مولى له، فذهب هذا المولى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: {ضربني حاطب، والله إن حاطباً لمن أهل النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبتَ، كذبتَ، كذبتَ، حاطب من أهل الجنة، إن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم}.

وهذا ثبت، فإن الله عز وجل تجلى للناس يوم بدر، يوم التقى الجمعان، يوم كان المسلمون بالعُدوة الدنيا، وهم بالعدوة القصوى، والركب أسفل منهم، فتجلى لهم الحي القيوم، وقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم.

وفتح الله لهم أبواب الجنة؛ فهم من أفضل الناس، ومن أفضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015