الأمر الثاني الذي يتساءل عنه أهل العلم في هذا الحديث: لماذا لم يذكر الراوي تحية المسجد؟
قال القاضي عياض المالكي رحمه الله: الوقت وقت كراهة فما صلوا تحية المسجد، وهذا فيه احتمال، وإذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال، وليس للقاضي عياض دليل قاطع على هذه المسألة فلا يقبل؛ لأنه يريد أن يستدل بهذا الحديث على المذهب المالكي؛ لأن المالكية يقولون: إذا دخل بعد العصر أو بعد الفجر في المسجد فلا يصل التحية وليجلس.
والصحيح أنه يُعتذر لهم بثلاثة أعذار:
الأول: أنها ربما لم تكن قد شرعت -قاله ابن حجر - فجلسوا.
والأمر الثاني: أنهم يمكن أنهم صلوا ركعتين فما ذكرها الراوي لاشتهارها بين الناس.
والأمر الثالث: ربما لم يكونوا على وضوء، دخلوا المسجد وليسوا على وضوء، ولك أن تدخل المسجد على غير وضوء، ولك أن تدخل -إذا أردت أن تجلس في المسجد أو تذاكر من غير أن تقرأ القرآن أو تصلي- لك أن تدخل على غير وضوء، لأن في سنن أبي داود بسند حسن، قال صلى الله عليه وسلم: {إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب}.
فلما منع صلى الله عليه وسلم من دخول الحائض والجنب المسجد، دل على أن غيرهم لهم ذلك، فمن انتقض وضوءه فله أن يدخل المسجد، وكان ابن عمر -كما في الصحيح-: ينام في المسجد.
ومن نام في المسجد فقد يحدث وهو نائم، وينتقض وضوءه، فهذا دليل على أنه يجوز للإنسان أن يدخل وهو منتقض وضوءه لا أن يكون عليه جنابة، فصاحب الجنابة لا يدخل المسجد إلا عابر سبيل، يدخل من هذا الباب، ويخرج من الباب الآخر، أما أن تدخل وتجلس وأنت جنب فليس لك ذلك.
وقد أورد صاحب المغني رأياً وهو: أن الجنب يتوضأ وله بعد ذلك أن يجلس في المسجد، والصحيح الأول كما قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء:43] فيعبر ولا يجلس، وكذلك الحائض من النساء، وسوف يمر معنا باب الحيض، لندرك عظمة الإسلام في حياة المرأة، وكيف عاش الإسلام معها، وكيف لبَّى طلبات المرأة، وكيف حل مشكلات المرأة، وكيف اعتنى بها، ورفع قيمتها؟!
فالحائض والنفساء من النساء لا يقربن المساجد، وإنما يعتزلن المساجد، ولهن أن يحضرن مجالس العلم إذا كانت في غير المسجد، فتجلس ولو كانت حائضاً أو جنباً، لحديث أم عطية أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر العواتق وذوات الخدور أن يحضرن صلاة العيد ودعوة المسلمين، ويعتزلن المصلى؛ للبركة وللمنفعة من حضور مجالس العلم، هذه قضية دخول المسجد بلا وضوء.
والصحيح أن ركعتي تحية المسجد سنة مؤكدة، ولا بد من أدائها، لحديث أبي قتادة في الصحيحين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من دخل المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين} وسواء كان في وقت نهي أو في غير وقت نهي؛ لأن هذا حديث خاص، وأما الحديث العام أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس} فهو عام في الأوقات، يخصصه حديث ذوات الأسباب، كأن نمت عن صلاة فتصليها متى ذكرتها، ولو بعد الفجر أو بعد العصر، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: {من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها متى ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك، ثم تلا قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]}.
فالذي يدخل المسجد لا يجلس حتى يصلي ركعتين، ولو كان الخطيب يخطب يوم الجمعة، لحديث جابر الصحيح، قال: {دخل سليك الغطفاني والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب الناس، فجلس، فقال: أصليت؟ قال: لا، قال: قم فصل ركعتين -وفي رواية-: وأوجز فيهما، أو خفف فيهما} فأقامه صلى الله عليه وسلم في الخطبة، فمن باب أولى أن يصلي القادم الداخل في أي وقت، وإن دخل والناس في فريضة فيكفيه دخول الفريضة، وإن دخل والناس يصلون على جنازة فيكفيه صلاة الجنازة.
وإن دخل والوقت ضيق ولا يتسع له أن يصلي ثم يدخل مع الإمام في صلاة الجمعة، فلينتظر ويدخل معه في الصلاة، هذا ما يتعلق بذكر تحية المسجد في الحديث.