وأما مسيرة اهدنا في من هديت، فهي تبدأ من نوح عليه الصلاة والسلام، بل قال أهل العلم: من آدم عليه السلام.
والله عز وجل وصف نفسه أنه على صراط مستقيم، فقال: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56] فهو الذي يهدي ومنه الهداية: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] ولتعلم أنه قال للرسول صلى الله عليه وسلم في أمور التشريع: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] ثم قال له: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] قال أهل العلم: أي: تدل وترشد وتنصح، تقول الجنة من هنا والنار من هنا، الصلاة والمسجد هنا، والمصحف هنا، مع العلم أنك لا تهدي، أي: لا توجه القلوب، فالذي يوجه القلوب هو الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وهو الذي يرشدها ويدلها.
ومن اللطائف أيضاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دائماً يصعد في درجات الكمال، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: العبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات.
فأنت لا تفكر باليوم، فربما تكون الليلة ناقص الإيمان، وربما يكون إيمانك مزعزعاً، ربما تكون عندك شهوات وشبهات، ولكن انتظر يوم تسقي شجرة قلبك بماء الطاعة، كيف تأتي أكلها كل حين بإذن ربها، وانتظر مستقبلك بعد عشر سنوات أو مثلها، فـ أبو بكر لما أسلم لم يكن مثله لما مات، يوم أسلم كان يعرف مجمل الدين، فلما مات كان صديقاً من الصديقين الكبار، وهكذا يبدأ الإيمان يزرع، ويسقى بماء التوبة، وسماع الدروس وحضور المحاضرات وحب الصالحين، ويسقى بماء الغضب لله عز وجل والوقوف مع (لا إله إلا الله) بماء الانتصار لـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] بماء الغضب على العصاة والفجرة والمردة والفسقة الذين يعادون لا إله إلا الله والعلماء والصالحين والدعاة، فهذه إذا سقيتها آتت أكلها كل حين.
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح:29] قالوا: زرعوا لا إله إلا الله؛ فأتت بالصلاة والزكاة والصيام والحج، فلما أخرجت شطأها واستوت: آزرت بالنوافل وحب الصالحين، وبالدعوة، وبالفقة في الدين، فلما آزرتها بالثمار، آتت بحلاوة لا إله إلا الله محمد رسول الله وهو الموت في سبيل الله، فلما أتت الحلاوة ذاقوها، قال صلى الله عليه وسلم: {ذاق طعم الإيمان: من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً}.
واختلفوا بين الذوق والحلاوة، قالوا: الحلاوة تأتي بثلاث وهي في أصل الثمرة، يقول صلى الله عليه وسلم: {ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان} وقال عند مسلم من حديث العباس: {ذاق طعم الإيمان} فاختلف أهل السنة من الشراح هل يذوق الحلى قبل أن يذوق الوجد أم لا، والصحيح أن الحلى آخر شيء، وأن من بلغ منزلة: {ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان} وعسى أن يكون هناك محاضرة لشرح هذا الحديث الضخم العجيب: {ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواها، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار} متفق عليه من حديث أنس.
فالمقصود هنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغ غاية الولاية لله عز وجل، وغاية المنزلة، وفي قوله طلب الهداية وأنه سيد المهتدين، رداً على طوائف: كطائفة الصوفية الغلاة، الذين قالوا: إن الولي أعظم من النبي، وكذبوا -لعنهم الله-.
وبعض الناس قالوا: الأئمة معصومون وهم أفضل من الأنبياء -عليهم غضب الله- بل الأنبياء أفضل عباد الله، فقد اصطفاهم الله واختارهم واجتباهم وجعلهم سُبحَانَهُ وَتَعَالى قدوة وصفوة للناس.
هذه من منازل الهداية ومن منازل: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] وتحتاج: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] إلى كلمة ومحاضرة وشرح عن هذه الكلمة المباركة وعن الصراط وعن المستقيم ومن هم سالكوه ومن هو إمامه، وهل هناك سبل أخرى؟ وما صفات هذه السبل؟ وكيف يتجنب العبد هذه السبل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153].
{اللهم اهدنا في من هديت، وعافنا في من عافيت، وتولنا في من توليت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت} وزاد بعض العلماء: {اللهم لك الحمد على ما قضيت، ولك الشكر على ما أعطيت} إلى غيره من الدعاء، ولكن وقف الحديث الحسن إلى هذا المعنى الحسن، وهي جمل باهرة في معالم التوحيد، وعلى العبد إذا أراد أن يوتر في الليل أن يستفتح وتره بهذه الكلمات بعد حمد الله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يزيد ما شاء الله له من الكلام الطيب العجيب، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا للحسن أن يحبوه، فلم يكن صلى الله عليه وسلم يملك دنيا ولا ديناراً ولا درهماً، وليس عنده توزيع المناصب، ولكن عنده توزيع الهدايا:
المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء
أتته فاطمة ابنته، أمُّ هذا الرجل الصحابي الذي معنا - أم الحسن - أتته في ظلام الليل فقالت: {يا رسول الله! عندك سبي -والسبي الخدم والجواري من بعض المعارك- فأعطني خادماً يخدمني، فردها إلى البيت ثم زارها وزار علياً -والحديث في الترمذي - قال: ألا أدلكما على خير لكما من خادم؟ قالا: بلى.
قال: إذا أتيتما مضجعكما -يعني في النوم- فسبحا ثلاثاً وثلاثين، وتحمدان الله ثلاثاً وثلاثين، وتكبران أربعاً وثلاثين فذلكما خير لكما من خادم} فانظر كيف وجههم إلى الذكر.
وجاءه العباس يسأله مالاً وعمه العباس هو جد الدولة العباسية، جد ستة وثلاثين خليفة، ملكوا ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، يريد مالاً، قال: {يا عم! ألا تريد أن أحبوك؟ قال: بلى، قال: قل: اللهم إني أسألك العفو والعافية}.
وعند الترمذي أن أعرابياً أتى عنده جمل وعليه عيبة، يريد أن يملأه تمراً وزبيباً ودقيقاً، فقال: {يا رسول الله! أريد سفراً؟ فزودني} ولم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، فالنبي عليه الصلاة والسلام الذي فتح الدنيا لأتباعه، وفتح القصور والذهب والفضة، مات وهو لم يشبع من كسرة خبز، وما شبع من طعام بر ثلاث ليالٍ متتابعات، تقول عائشة: {والذي أخذ رسوله عليه الصلاة والسلام، ما شبع صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام متتابعة من خبز بر، وإنه كان يمر بنا الهلال والهلالان لا يوقد في بيته صلى الله عليه وسلم نار -يعني ما يجدون شيئاً يطبخونه- قالوا: فما طعامكم؟ قالت: الأسوادن: التمر والماء} ومع ذلك مات في هذه الحالة.
فأتى هذا الأعرابي فقال: {أريد سفراً؟ فزودني، قال: زودك الله التقوى -فترك طلب الزاد لما سمع هذا الكلام- وقال: زدني، قال: وغفر ذنبك، قال: زدني، قال: ويسر لك الخير حيثما كنت} وهذه من أجمل ما قيل! ومن يستطيع أن يصوغ هذه العبارات، فلم يحضر لها صلى الله عليه وسلم ولا أعد، ولكن: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:4 - 5].
أيها الإخوة: هذه محاضرة (اللهم اهدنا فيمن هديت) ونسأل الله عز وجل لنا ولكم الهداية والتوفيق، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.