يقول أبو الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وأنتم تعرفون أبا الحسن، فهو صاحب الرايات البيضاء في الإسلام، وصاحب المواقف المشهورة، والأيام الخالدة التي لا تُنْسى أبد الدهر، الزاهد الذي أعرض عن الدنيا، والذي يقول وهو يترنم في بيت مال المسلمين، وقد أنفق بيت مال المسلمين وما أبقى درهماً ولا ديناراً ولا حبة ولا ثوباً ولا زبيبة، يقول:
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت بانيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الموت نبنيها
فاعمل لدار غداً رضوانُ خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك تربتها والزعفران حشيش نابت فيها
يقول وهو يتكلم عن يقينه وعن الإيمان الذي في صدره: [[والله الذي لا إله إلا هو، لو كشف الله لي الغطاء فرأيت الجنة والنار؛ ما زاد على ما في قلبي من الإيمان مثقال ذرة]].
فهذا يقينٌ وإيمانٌ واعتقادٌ في الحي القيوم.
والشاهد من قصته: أنه يقول في صحيح البخاري في كتاب الرقاق: [[ارتحلت الآخرة مقبلة، وارتحلت الدنيا مدبرة، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل]].
ثم يأتي الإمام البخاري بجمال أسلوبه وبقلمه السيال بحديث عجيب في تقشف الصحابة، الذين عاشوا في بيوت الطين؛ ولكن كانوا منائر للهدى.
ربَّى صلى الله عليه وسلم قواد وعلماء العالم، ومفكري وشعراء العالم، وأدباء وعباد العالم، في مسجد من طين، طوله مائة ذراع.
ربَّى فيه ابن عباس وخالد بن الوليد وأبيَّ بن كعب وسعد بن أبي وقاص وأبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وحسان بن ثابت وابن رواحة، وغيرَهم وغيرهم.
خرجوا من هذا المسجد إشعاعاً في العالم، ورسل خير للبشرية.
هذا المسجد تربى فيه أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام؛ حتى يقول أحد المفكرين والأدباء في الإسلام في مدحه صلى الله عليه وسلم:
كفاك عن كل قصر شاهق عمِدٍ بيت من الطين أو كهف من العلمِ
تبني الفضائل أبراجاً مشيدةً نصب الخيام التي من أروع الخيمِ
إذا كرام الورى صفوا موائدهم على شهي من الأكْلات والأدم
صففتَ مائدة للروح مطعمها عذْبٌ من الوحي أو عذْبٌ من الكلمِ
فالرسول عليه الصلاة والسلام انطلق بالإنسان من هذا.
فلذلك يأتي البخاري بقصة عن أبي هريرة.
يقول البخاري - والله أكبر! كم لهذا الكتاب من أثر في قلب كل مسلم، سأل سائل ابن تيمية في المجلد العاشر من فتاويه: "أي كتاب بعد كتاب الله تدلني عليه؟ " قال شيخ الإسلام المجدد المجاهد الكبير العبقري الجهبذ: "لا أعلم بعد كتاب الله كتاباً أحسن ولا أنفع من صحيح البخاري ".
يقول البخاري: " باب تقشف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا عمر بن ذر قال: حدثنا مجاهد أن أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: {آللهِ الذي لا إله إلا هو لقد كانت تمر بي الأيام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أجد ما أملأ به بطني، وقد كنت أُصْرَع بين المنبر وبيتي، فيأتي عليَّ الناس وما بي صرع وما بي جنون ولكن الجوع، آللهِ الذي لا إله إلا هو إني كنتُ آتي بالحجر فأجعله على بطني، فأربط عليه رباطاً من شدة الجوع، ومرت بي ليلة من الليالي فاشتد بي الجوع وقد صليت المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صلى الناس في المسجد خرجت عند باب المسجد} يتعرض للضيافة، علَّ أحد الناس يفتح الله عليه فيدعوه للعشاء، قال: {فمرَّ بي أبو بكر، فسألته عن آية من القرآن، والله ما سألته من أجل الآية؛ ولكن من أجل الطعام، فأخبرني عن الآية، ثم مضى وتركني، ثم مر بي عمر بن الخطاب فسألته عن آية، والله ما سألته عن الآية من أجل الآية؛ لكن ليطعمني، فمر وتركني، ثم رأيتُ أبا القاسم بأبي هو وأمي، صلى الله عليه وسلم فلما رآني قبل أن أكلمه تبسم، وأخذ بيده الطاهرة فشبك بها في يدي، ثم أخذني إلى بيته} عرف عليه الصلاة والسلام أنه يريد الطعام.
محاسنه هُيُولا كل حُسْن ومغناطيسُ أفئدة القلوب
فذهب به إلى البيت، وقال: {فأجلسني، فقال لأهله: أعندكم شيء من طعام؟} وأهله وراء الستار، رسول البشرية، أكرم الخلق على الله، الذي جعله الله شفيعاً للناس يوم يجمع الله الأولين والآخِرين، ما يجد إلا شيئاً من لبن، فقال لزوجته: {أعندكم شيء من طعام؟ قالت: لا -والله- إلا شيء من لبن، أهداه لنا بنو فلان، قال: يا أبا هريرة! اذهب إلى أهل الصُّفَّة}.
وأهل الصُّفَّة: قوم فقراء في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام قراء، مجاهدون متعبدون، أما ليلهم فصلاة ودعاء وبكاء حتى الصباح، وأما نهارهم فنصف منه يحتطبون ويبيعون للمعيشة، والنصف الآخر لتعلم القرآن والحديث في المسجد.
قال: {فذهبت إليهم وبي من الجوع ما لا يعلمه إلا الله، وقلت في الطريق: يا سبحان الله! ذهبتُ معه إلى البيت لأتناول هذه المِذْقة من اللبن، فأرسلني إلى أهل الصُّفَّة! وأين يأتي هذا القليل من اللبن على أهل الصُّفَّة جميعاً!} ثم يقول: {ولكن ما مِن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بُدّ، فدعوتُهم، فأتوا ورائي، فاستأذنتُ فأذن لي صلى الله عليه وسلم فدخلوا، فأخذوا أماكنهم في المجلس حتى جلسوا عن بكرة أبيهم، فقال عليه الصلاة والسلام وهو يتبسَّم:}.
فهو يعرف جوع أبي هريرة.
قال: {يا أبا هريرة! قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! قال: خذ هذا اللبن ودُر على الناس، قال: فأخذته وأعطيه الأول فيشرب، ثم أناول الثاني فيشرب، والثالث حتى انتهيت إليه صلى الله عليه وسلم، فالتفت إليَّ قبل أن يشرب وقال: بقيتُ أنا وأنتَ يا أبا هريرة! قلتُ: صدقت يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، قال: اشرب، فشربتُ، قال: اشرب، فشربتُ، قال: اشرب، قلتُ: والله يا رسول الله! بأبي أنت وأمي ما أجد له مسلكاً}: أي: شربتُ حتى امتلأتُ.
ولذلك أبو دلامة، أحد المتفكهين في تاريخ الإسلام، دخل على هارون الرشيد وهارون الرشيد كان يجمع الأدباء والسُّمَّار والشعراء في مجلسه بعد صلاة العشاء، فالفكاهي المزَّاح أبو دلامة دخل عليه، فقال له هارون الرشيد: "يا أبا دلامة! سمعنا أنك تطلب الحديث النبوي، وأنك تحفظ بعض الأحاديث.
هل حفظت شيئاً؟ قال: نسيتُ كل الأحاديث، وما حفظت إلا ثلاثة أحاديث، قال: وما هي؟ قال: قولهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعجبه الحلوى والعسل، والحديث الآخر: قوله صلى الله عليه وسلم: {إذا حضر العَشاء والعِشاء فابدأوا بالعَشاء قبل العِشاء} وقول أبي هريرة في حديثه: {شربتُ اللبن حتى ما وجدتُ له مسلكاً} قال: أما تحفظ إلا أحاديث الطعام؟! أتحفظ من أحاديث الآخرة شيئاً؟ قال: أحفظ حديثاً، قال: وما هو؟ قال: حدثنا فلان بن فلان عن فلان بن فلان عن فلان بن فلان عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن حفظ خصلتين دخل الجنة، قال: وما هما الخصلتان؟ قال: نسيتُ واحدة، ونسي عكرمة الثانية! "
فـ أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: {يا رسول الله! والله ما أجد للبن مسلكاً، فأخذ صلى الله عليه وسلم الكوب، فسمَّى، قال أبو هريرة: فنظرتُ إلى اللبن، فوالله ما كأنه نقص منه شيءٌ،} وذلك لبركته صلى الله عليه وسلم.
والشاهد من القصة: أنه لا عبرة بالتراث، بل هو ابتلاء، وأن الذي يأكل حتى يموت حبطاً، فليس ذلك لدرجته عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].
تموت الأُسْد في الغابات جوعاً ولحم الضأن تأكله الكلابُ
ولذلك تجد بعض أعداء الله عز وجل مرفه في الدنيا لا يجوع ولا يهتم، لا يظمأ ولا يتعب، كل أموره ميسرة؛ لكن على حساب أجره عند الله، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16].
فمن كان يريد الله فأكبر معالم إقباله: أن يخلص عمله لله، والذي ينبغي أن يكون من أعظم الأهداف تحقيقاً في الأربع والعشرين الساعة: الصلوات الخمس.
يقول ابن تيمية وقد شكا له رجل النفاق والشبهات والشهوات في صدره: "أوصيك بعد تقوى الله بإصلاح الصلوات الخمس ظاهراً وباطناً، وأن تخشع فيها، وأن تكثر من الالتجاء والدعاء إلى الله عز وجل، فسوف يرزقك الله الصدق والقبول".
وأوصي نفسي وإياكم بالصلوات الخمس: أن نصْدُق فيها؛ فإنها المدرسة الروحية العالية، والقداسة والطهر، وهي العهد والميثاق الذي أخذه الله علينا، والذي سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا، ويوم نصْدُق مع الله في الصلوات الخمس ونجدد بيعتنا مع الله في كل صلاة يرزقنا الله القبول، ويرزقنا الله الصدق والاطمئنان، ويأخذنا سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بأيدينا إليه صراطاً مستقيماً.