ولذلك يأتي بطل آخر اسمه: أنس بن النضر قبل معركة أحد، وقد انهزم المسلمون في أول المعركة، فيقول: [[اللهم إني أبرأ إليك مما صنع هؤلاء -أي المشركين- وأعتذر إليك مِن فرار هؤلاء -أي المسلمين-]] ثم أخذ درعه فخلعه من على جنبيه، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يضحك للعبد إذا لقي العدو حاسراً، أي ضحكاً يليق بجلاله تبارك وتعالى، إذا لقي العبدُ العدوَّ وليس عليه درع.
فيقول أحد إخوانه: يا أنس بن النضر! لا تخاطر بنفسك.
قال: [[إليك عني يا سعد بن معاذ! - والذي نفسي بيده إني لأجد ريح الجنة من دون أحد]] قال أنس بن مالك: [[فوالله لقد قُتِل، فوجدنا فيه أكثر من ثمانين ضربة، ووالله ما عرفَتْه إلا أخته ببنان أصابعه]].
فيا سبحان الله! أي أمة تلك الأمة؟!
وأي جيل ذاك الجيل؟!
وأي شباب أولئك الشباب؟!
وأي جيش ذاك الجيش؟!
إنهم تربية الله الخالدة وفطرته النيرة، والقداسة التي أنزلها الله على الناس.
إنها الأمة الخالدة الموحدة التي فتحت الدنيا بـ (لا إله إلا الله) وأنقذت الإنسانية بـ (لا إله إلا الله) وعبرت على متون الماء بـ (لا إله إلا الله).
ويأتي عبد الله بن عمرو الأنصاري فيصلي في الليل قبل معركة أحد، فيرى في المنام أنه قتل شهيداً، فيقول: الحمد لله، ويصلي مرة أخرى، فيرى أنه قتل شهيداً فيحمد الله، ثم يُوقِظُ ابنَه وبناتِه، ويقول: أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
قالوا: وماذا حدث؟
قال: رأيت مرتين في منامي أن المعركة قد قامت وأني أول من قُتِل في المعركة.
فقالوا: لا عليك.
قال: هكذا أقول.
فأتى في الصباح، فماذا فعل بعد صلاة الفجر؟ انظر إلى الأمنية، والهمة العالية، أتى إلى الماء فاغتسل، وتحنط، ولبس أكفانه، وخرج صادقاً مريداً لوجه الله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد:21] خرج صادقاً، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول كما في صحيح مسلم، عن أبي هريرة: {من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء ولو مات على فراشه}.
فيخرج هذا المجاهد، وتبدأ المعركة فيكون أول مقتول.
ويقول عليه الصلاة والسلام لـ جابر: {يا جابر، أتدري ماذا فعل الله بأبيك؟
قال: قلتُ: لا والله يا رسول الله!
قال: والذي نفسي بيده لقد جمعه هو وشهداء أحد، فكلمهم كفاحاً بلا ترجمان - أي: مباشرة - فقال: يا عبادي! تَمَنَّوا علَيَّ، قالوا: نتمنى أن تعيدنا في الدنيا لنُقْتَل فيك ثانيةً -لما رأوا من أجر الشهادة- قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يُرْجَعون، فتَمَنَّوا، قالوا: نتمنى أن ترضى عنا، فإنا قد رضينا عنك، قال: فإني قد أحللتُ عليكم رضواني، لا أسخط عليكم أبداً} ثم قال عليه الصلاة والسلام: {فأخذ الله أرواحهم فجعلها في حواصل طير خُضْر، تَرِدُ الجنة فتأكل من أشجارها، وتشرب من مياهها، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، حتى يرث الله الأرض ومن عليها} قال ابن كثير: سند هذا الحديث حسن، وهو كلام حسن.
فيا سبحان الله! أي هِمَمٍ كانت؟! وأي نفوس عاشت؟! عاشت لله، وقامت له، وانتصرت له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وليس على الله بعزيز أن يعيد من أمثال هؤلاء، فإن أمة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم كالمطر، لا يُدرَى الخير في أوله أو في آخره.
وأنتم يا أبناء الإسلام! ويا أحفاد خالد، وسعد! يا أحفاد من رفعوا (لا إله إلا الله) في كل صِقْع! يا أحفاد من دخلوا أسبانيا بـ (لا إله إلا الله) فدخلت الأمم لما رأت العدل والسلام، ويا أحفاد من سار إلى نهر السند والجانج وغيرها من أنهار العالم بـ (لا إله إلا الله)! فدخل الناس في دين الله زرافات ووحداناً، تمسكوا بدينكم يعزكم وينصركم على عدوكم.