عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يدخل بيت المقدس، فيستعرض أمامه جيشاً قوامه أربعون ألفاً، وعلى رأسه عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان وأبو عبيدة، وهم يصفون الكتائب أمامه، فيدخل وهم ينتظرونه، ويخرج النصارى على أسطحة المنازل ينتظرون هذا الخليفة الذي دوَّخ الدنيا وهز المعمورة، وأصبح للأرض منه رجة، ينتظرونه، ينظرون ما الذي سوف يقدم عليه من موكب وكيف حرسه ولباسه وقوته وجيشه وجنوده ووزراؤه ومستشاروه، فينتظرون مذهولين؛ لأن عمر دوَّخ العالم، حتى يقول محمود غنيم:
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواهُ
البردة: فيها أربع عشرة رقعة.
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاهُ
يا من يرى عمر: يقول: تبصروا في عمر أين كان يسكن؟ في بيت من الطين مساحته ثلاثة أمتار في مترين، وغداؤه زيت في شعير.
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواهُ
يهتز كسرى على كرسيه فَرَقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه
لماذا؟ لأن الله عز وجل أخذ على نفسه أن من خاف منه تبارك وتعالى خوَّف منه كل شيء، والذي يخاف من غيره؛ خوفه الله من كل شيء؛ ولذلك بعض الناس يخافون من هذه القوى، والكتل والهيئات، فيخوفه الله منها، ولو خافوا منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لخوَّف أولئك منهم، فهذا لزام منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
يقدم عمر فيأتي إلى بيت المقدس ليفتحه على ناقة، ومعه خادمه ميسرة، يركب عمر مسافة ما يقارب الثلث ساعة، فإذا تعب خادمه نزل وأركب الخادم وقاد هو الجمل، فلما أشرف على الناس والكتائب حول المسجد الأقصى، والأمراء قد وقفوا، والنصارى أطفالاً وشيوخاً وشباباً بأعلامهم على سطوح المنازل، قد عبئوها لقدوم الخليفة الذي دوَّخ الدنيا، فيقدم هذا الرجل الذي يقود الجمل؛ لأن نوبته أتت في قيادة الجمل وقت دخول بيت المقدس، فيقول الخادم: يا أمير المؤمنين! سوف أنزل لأننا وصلنا، قال عمر: أنوبتك أم نوبتي؟ قال: لا.
نوبتي، قال: لا.
نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله.
فانتسابنا إلى الحي القيوم منه العزة، فإنه الذي يعز ويهدي، ويوفق ويسدد.
فقال النصارى: أهذا خادم أتى يبشر بقدوم أمير المؤمنين؟ فاحتار القائد عمرو بن العاص وأتى إلى عمر، وقال: فضحتنا يا أمير المؤمنين!
قال عمر: ماذا؟ قال عمرو: أتيت على جمل وقد قامت الدنيا وقعدت لاستقبالك.
قال عمر: يا عمرو! ثكلتك أمك، من كنا قبل الإسلام؟ أما كنا رعاة أغنام؟ قال عمرو: بلى.
قال عمر: فإنا قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله.
وبالفعل يحدث هذا، كلما حاول شخص أن يعتز بغير هذا الدين؛ مقته الله وأذله، وأخسأه وهزمه وفضحه أمام العالمين.
فقدم عمر رضي الله عنه فلما قدم كبر القواد فاهتز المسجد بتكبيرهم، ثم قال عمر لـ بلال يا بـ بلال، أسألك بالله أن تسمعنا الأذان، لقد حانت صلاة الظهر.
وبلال بعد أن أذن للرسول عليه الصلاة والسلام، وتوفي الرسول عليه الصلاة والسلام قام تلك الليلة ليؤذن، في أول ليلة بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام فلما قال: أشهد أن محمداً رسول الله، تذكر الرسالة والرسول فبكى، وقطع الأذان، وحلف بالله لا يؤذن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما جاء عمر وحانت صلاة الظهر قال: يا بلال! أسألك بالله أن تؤذن لنا هذا اليوم يريد أن يذكره بالصوت الحبيب الشجي، الذي تألفه الأرواح والذي يسري عذباً في الآذان.
فقام بلال يردد الصوت الخالد الذي فتحنا به المعمورة، يردد صوت السماء، الذي دوخنا به الدنيا، وسرنا به على المحيطات والأبحر، يقول: الله أكبر، الله أكبر فبكى عمر، وبكى المسلمون، وبكى النصارى.
وكان الفتح: فتحها عمر بجمل واحد، لكن (لا إله إلا الله) تمكنت في قلب عمر.