والرسول عليه الصلاة والسلام في جانب العظمة له أسرار عجيبة، وفي جانب التواضع له أساليب غريبة.
أرأيتم البسمة ما أرخصها! كيف تشرى بها القلوب؟ استخدمها في دعوته صلى الله عليه وسلم، ولقد وجدنا في زمن كانت البسمة من أغلى ما يباع في الأسواق، أصبحت غالية.
أما هو صلى الله عليه وسلم فالبسمة عملة له، فسبى بها الأرواح، وقاد بها النفوس إلى الحي القيوم.
يأتيه أعدى الأعداء، فيتبسم صلى الله عليه وسلم في وجهه، فيهتدي بإذن الله.
يقول جرير بن عبد الله: {والله الذي لا إله إلا هو ما رآني صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي}.
ويأتيه أرطبون العرب عمرو بن العاص مسلماً لأول وهلة، فيتبسم في وجهه، فيظن أنه أحب الناس إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وفي الصحيحين من حديث أنس: أنّ أعرابياً جاء من البادية أعرابي وبدوي: جهل مركب فلما أتى نسي هذا الأعرابي في ذهنه أنه سوف يتكلم مع معلم الإنسانية وهادي البشرية، ومزعزع كيان الوثنية، أتى يطلب هذا الأعرابي شيئاً من الزبيب والتمر والحب، مطالب أهل التراب، ومقاصد أهل الأرض، ولا يدري أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - يُطْلَب من خزانته مفاتيح جنة عرضها السماوات والأرض، ومفاتيح روضة غناء في جوار الواحد الأحد يوم القيامة.
ألا بَلَّغ اللهُ الحمى مَن يريدهُ وبَلَّغ أكناف الحمى مَن يريدها
فأتى، فليته تأدب، لكن لم يترك الصلافة والجفا وقلة الأدب، هرع مهرولاًَ إلى معلم الخير، فجذبه ببردته، وهو بُرْدٌ غليظ نجراني، وحاشيته غليظة، فجذبه أمام الصحابة وأمام الناس، موقف محرج ومخجل ومثير للعواطف وجارح للشعور، ولو كان غيره صلى الله عليه وسلم لَمزَّق هذا الأعرابي تمزيقاً، وقطعه إرباً إرباً، وما تملحت عيناه برؤية الحياة مرة ثانية.
سحبه أمام الناس حتى أثَّر البُرْد في عنقه واحمر عنقه الشريف، عنق المكرمات، عنق المجد، والصلاح والنجاة والتجديد، فالتفت صلى الله عليه وسلم إليه وهو يضحك، لم تغادره البسمة حتى في الساعات الحرجة.
يضحك، فيقول أنس: [[ليته يوم أساء الفعل أحسن القول]] لكن (حَشَفاً وسوء كيلة) قال: يا محمد، والله يقول: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور:63] يا محمد هكذا؟ كلمة رخيصة؟ ليس عادياً، أمامك رسول، أمامك نبي، أمامك أعظم مصلح في الأرض.
يا محمد، أعطني من مال الله الذي عندك، لا من مال أبيك، ولا من مال أمك، فيقوم الصحابة -انتهى الصبر- وفي أولهم: عمر - رضي الله عنه وأرضاه - ليخرج وساوس الشيطان من رأس هذا الأعرابي، والرسول - عليه الصلاة والسلام - يهدئ من روعهم ويجلسهم، ويقول: {اجلسوا رحمكم الله} أو كما قال، فيأخذ الأعرابي بهدوء وسكينة ولطافة ويشبك أصابعه بأصابعه، ويدخل معه في غرفة من غرفه، فيعطيه زبيباً وحباً وثياباً ومالاً، قال: {هل أحسنتُ إليك؟} قال: نعم، أحسنت - جزاك الله من أهل وعشيرة خيراً - فيقول له صلى الله عليه وسلم: {اخرج إلى أصحابي، وقل لهم هذا القول، ليذهب ما في نفوسهم عليك} فيخرج إليهم، فيقول صلى الله عليه وسلم: {هل أحسنتُ إليك؟} قال: نعم، - جزاك الله من أهل وعشيرة خير الجزاء - ويذهب الأعرابي داعياً إلى قبيلته للإسلام فيدخلوا عن بكرة أبيهم في الإسلام.
فيقول - عليه الصلاة والسلام - وهو يترجم هذه الحركات لأصحابه: {أتدرون ما مثلي ومثلكم ومثل هذا الأعرابي؟ قالوا: لا.
قال: مثلنا كمثل رجل كانت له دابة فرت منه، فأخذ الناس يلاحقونها، فما زادت إلا فراراً، فقال: يا أيها الناس! اتركوا لي دابتي، أنا أبْصُر بها، فأخذ شيئاً من خضار الأرض وخشاش الأرض فأشار به إلى الدابة فأتت، فربطها واستسلمت وقيدها فلو تركتكم مع هذا الأعرابي لضربتموه أو قتلتموه ودخل النار، وما أسلم قومه، ولكن لاطفت به حتى أنقذه الله بي من النار، وأسلم قومه}.
أي عظمة هذه العظمة؟ وأي تربية هذه التربية؟ وأي إدراك هذا الإدراك؟ معذور من أسكن قلبه حبك أيها العظيم، ومعذور من يتمنى أن يفديك بأهله وماله وولده ونفسه.
نسأل الله - عز وجل - أن يعرفنا على ذاك الوجه الأجَل، وأن يجاور بيننا وبينه في الجنة، وأن يسقينا من حوضه شربة لا نظمأ بعدها أبداً.
عباد الله! وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقال صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ على نبيك وحبيبك محمد.
اللهم أرنا وجهه العظيم في دار الكرامة والنعيم.
اللهم املأ قلوبنا بحبه، وسلوكنا بسيرته، وأنفسنا بالاقتداء به، اللهم اجعله لنا معلماً وقائداً ومربياً وهادياً إلى الجنة يا رب العالمين.
وارض اللهم عن أصحابه الأطهار، من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين، اللهم خذ بأيديهم لما تحبه وترضاه، اللهم أخرجهم من الظلمات إلى النور.
اللهم اهدهم سبل السلام، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، ولرفع رايتك، في برك وبحرك يا رب العالمين.
ربنا إننا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار،
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.