الموقف الرابع: استقبال حافل لوفد عبد القيس.
وفد عبد القيس هؤلاء من الأحساء من البحرين، أتوا إلى المصطفى عليه الصلاة والسلام، وكانت الوفود إذا أتت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم تشعر في أذهانها أنها سوف تتكلم مع رسول الله ونبي الله، وصفوة الله من خلقه، فتهيئ ثمانية، والعجيب أنهم اختلفوا في عددهم، قالوا: أربعة عشر، أو ثمانية، أو أربعون، أورد ذلك ابن حجر.
لبسوا وتهيئوا ومشوا من الأحساء حتى وصلوا إلى المدينة، نزلوا حول المدينة، فقال لهم أشج عبد القيس: انتظروا والبسوا وتطيبوا واغتسلوا ثم ادخلوا على الرسول عليه الصلاة والسلام.
قالوا: لا، ندخل عليه الآن، فأتى بقية الوفد، ومكث أشج عبد القيس وحده، أما الوفد فدخلوا بغبار وشعثاء السفر، وأما أشج عبد القيس فخرج إلى نخل هناك فاغتسل، ثم لبس ثيابه، وتعمم، وتطيب، ثم أخذ عصاه بيده -ذكي متأنٍ متأمل- ثم أتى ودخل المسجد والرسول عليه الصلاة والسلام جالس مع الناس، والوفد قد سبقوه، فأخذ يلمحه صلى الله عليه وسلم خطوة خطوة، فتقدم الأشج فجلس، فالتفت إليهم صلى الله عليه وسلم وقال: {من الوفد؟} الوفود كثيرة، والمدينة أصبحت في حالة استنفار للوفود، فهو عام الوفود، وفد يستقبل ووفد يودع ووفد يأتي، ووفد يذهب، قال: {من الوفد؟ قالوا: نحن من قبائل ربيعة} وفي ذلك دروس:-
أولاً: أن يسأل الضيف من هو، يأتيك ضيف يمكث عندك ثلاثة أيام لاتعرف اسمه، تقول له فقط: يا أخي! يا فلان! لا.
بل تسأله.
ثانياً: محادثة الضيف، فإنه أُنس له، وتطييب لقلبه، ولذلك إذا انقبض الإنسان عند ضيفه مات الضيف، وانكسرت عواطفه.
ثالثا: أن يُخبر الإنسان عن نسبه، فإذا قيل له: من فلان؟ قال: مؤمن من المؤمنين، نحن ندري، لكن من أي قبيلة؟ قالوا: من ربيعة، قال: {مرحباً بالقوم غير خزايا ولا ندامَى}.
ثم التفت إلى الأشج وقال: {إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة} وتبين فيه صلى الله عليه وسلم أنه أتى بهدوء لابساً متجملاً، ثم جلس، ثم سأل سؤال العاقل قال: {إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة، قال: يارسول الله! هل جبلني الله عليهما أم خُلق تخلقت بهما؟ قال: بل جبلك الله عليهما، قال: الحمد لله الذي جبلني على خلق يحبه الله ورسوله}.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: {آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن تقيموا الصلاة، وتؤدوا خمس ما غنمتم، وأنهاكم عن الدُباء والنقير} وفي لفظ: {النقير والمزفت} ثم قال: {احفظوها وأخبروا بها من وراءكم} قال: أحدهم من كبارهم: ما أدراك ما النُقَيِر؟ وفي لفظ النَقِير الذي يُنقر من جذع الشجرة ويوضع فيه التمر والشعير فيصبح خمراً، والمزفت: الجرار الخضر، تطلى بالقطران، ويوضع فيها الشعير والتمر ثم تصبح خمراً، قالوا: {وما أدراك بها يا رسول الله؟! قال: بل تنقرون جذوع النخل أو جذوع الشجر، وتضعون فيه التمر والماء، ثم يشرب أحدكم، فربما عدا على ابن أخيه بالسيف فضربه، قال: وفينا رجل عدا عليه ابن أخيه بالسيف فضربه في رأسه، فأخذ هذا الرجل يخفي الضربة في رأسه بالعمامة} هذا وفد عبد القيس واستقبالهم في المدينة وكانوا من أحسن الوفود.
وعلى موجز الوفود أذكر بعض الوفود:
وفد بني حنيفة، وهم جماعة مسيلمة، وقد انقسموا إلى قسمين: قسم جلس مع مسيلمة ولم يأت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال صلى الله عليه وسلم: {أما إن شركم الذي جلس} يعني مسيلمة، فأتى إليه صلى الله عليه وسلم، فقال: {والذي نفسي بيده لو سألتني بهذا السوط لما أعطيتك، ولئن خرجت ليفضحنك الله، أو لينتقمن الله منك} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
ووفد الجنوب، ورد في رواية ضعيفة، لكن نقويه، لأنه جنوبيٌ، هم وفدوا سبعة أو ثمانية بخمسة عشر خصلة، فكانوا من أحسن الوفود، والقصة طويلة.
ووفد غامد، أتوا بعياب، أهل تجارة، فأنزلوا عيبتهم فسرقها رجل، فسألهم صلى الله عليه وسلم لما أتوا: {من تركتم عند عيبتكم؟ قالوا: تركنا فلاناً، قال: أما إنها سرقت عليكم} أخبره الذي يعلم السر وأخفى، فعادوا فوجدوها سرقت، فرجعوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فشهدوا أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بحثوا فوجدوها حيث دلهم عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، والوفود كثيرة، لكن على كل حال هذا وفد عبد القيس من أحسن الوفود.