وإليكم أيها الأحباب الأخيار قصة ثالثة نُنهي بها هذا الموقف لنصل إلى موقف آخر من مواقفه عليه الصلاة والسلام: في صحيح مسلم أن جابر رضي الله عنه وأرضاه، قال: والذي أخذ بصري بعد أن أعطانيه
كان جابر بن عبد الله أعمى البصر، وأما قلبه فمبصر، قلبه يرى، قلبه على بصيرة من الله، وأما بصره فأخذ الله نوره ليعوضه جنة عرضها السماوات والأرض {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد:19] بعضهم عيونه كبيرة ولكن قلبه صغير، بعضهم يرى كل شيء ولكن لا يرى طريق الهداية، يبصر كل معالم الوثنية والفتنة والخرافة، يرى الشاشة والمجلة الخليعة، ويرى الفتاة الداعرة، ويرى الكأس، ويرى الساعات الحمراء، ويرى الإجرام، ولكن لا يرى طريق الهداية والاستقامة، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] ولسان حال جابر يقول:
إن يأخذ الله من عيني نورهما ففي فؤادي وقلبي منهما نور
قلبي ذكيٌ وعقلي غير ذي عوجٍ وفي فمي صارم كالسيف مشهور
الشاهد: يقسم جابر بمن أخذ بصره بعد أن أعطاه، وهو الله، ولا يقسم إلا بالله، لقد سافر مع الرسول عليه الصلاة والسلام -والحديث كما أسلفت في الصحيح- قال: لما خرجت معه في الغزوة أخذني عليه الصلاة والسلام بيدي، فخرجت معه إلى الصحراء، وانفرد الرسول صلى الله عليه وسلم بـ جابر، ثم قال له صلى الله عليه وسلم: {يا جابر! أترى تلك الشجرة؟ قلت: نعم، يا رسول الله قال: اذهب إليها، وقل لها: أيتها الشجرة! إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لك: تعالي فذهب فقال: يا أيتها الشجرة! إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: تعالي قال جابر: فوالذي نفسي بيده لقد أقبلت تشق الأرض شقاً حتى وقفت بجانبه -وسند هذا الحديث في مسلم كنجوم السماء- قال: اذهب إلى الشجرة الأخرى، وقل لها: يقول لك الرسول صلى الله عليه وسلم تعالي، فيذهب فيقول لها، قال جابر: فوالذي نفسي بيده لقد أقبلت تشق الأرض شقاً حتى وقفت بجانبه.
وفي لفظ آخر لـ مسلم: تخد الأرض خداً، من باب الأخدود {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} [البروج:4] أي: الشقوق في الأرض، فلما انتهى صلى الله عليه وسلم من حاجته أخذ بغصنين غصن من شجرة وغصن من شجرة، وقال: يا جابر قل لهما تعودان إلى مكانيهما، فقال لهما، قال جابر: والذي نفسي يبده لقد عادتا تشقان الأرض شقاً حتى وقفتا مكانيهما} {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15] بل هو الحق والبرهان الناصع على أنه رسول من الله.
وقد يقول قائل: سمعنا بهذا وأدركناه فما فائدة عرضه؟ فأقول: ثلاث فوائد نص عليها أهل العلم:
أولاً: تضويع المسجد بذكره عليه الصلاة والسلام.
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحياناً فننتكس
فذكره في المجالس من أحلى ساعات العمر، ومن أغلى حياة المؤمن في الدنيا.
الأمر الثاني: تعميق الإيمان وتأصيله.
الأمر الثالث: الاستغناء بالقصص الصحيح عن القصص الخرافي الباطل الذي لصقه الخرافيون المبتدعون الذين لا يعلمون شيئاً.
أتدري ماذا يقول الخرافيون؟
يقولون: سافر أعرابيٌ إلى المدينة، فوصل إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فوقف في القبر، وقال: يا رسول الله! إن الله يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} [النساء:64] وإني يا رسول الله أذنبت وجئت أستغفر الله فاستغفر لي عند الله، قالوا: فانشق القبر فسلم عليه الرسول عليه الصلاة والسلام!! وهذه خزعبلات {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] ويورد مثل هذه الخزعبلات الغزالي القديم والحديث، ولذلك يقولون: الأعرابي هذا لما صافح الرسول عليه الصلاة والسلام أنشد بيتين، وقال:
يا خير من دُفنت في القاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ويأتي النبهاني، وما أدراك ما النبهاني؟! صاحب الصلاة على سيد الكونين، الخرافي الكبير، والقبوري المبتدع، الذي يقول عنه الألوسي -بيض الله وجه الألوسي - يقول: إن كتب النبهاني وابن حجر الهيتمي وكتب السبكي -ولو أن فيها مجازفة- لا تصلح إلا مخالي يوضع فيها الشعير للحمير، لأنهم يقولون: كتب ابن تيمية لا تصلح للنشر، فقال: سبحان الله! كُتُب ابن تيمية العسل المصفى، والإبريز الخالص، والنور الوهاج ما تصلح لأن تنشر، والله إنها حياة لأمة ونور لقلوب، وإن فيها الأصالة والعمق، والذي لا يفهم كتب ابن تيمية كأنه لا يفهم العمق والأصالة، قال: أما كتبكم فتصلح مخالي يوضع فيها الشعير للحمير، تعلق برءوس الحمير، وتصلح كراتين للعلاجات في الصيدليات، وتصلح كذلك تطييق لأحذية زنوبة وأمثالها.
وهذا من الرد على أهل البدع.
يقول النبهاني: أتى الشيخ/ أحمد الرفاعي - وهو من مشايخ الطرق- قال: فوصل إلى الحرم المدني، فتقدم إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال:
في حالة البعد روحي كنت أرسلها تقبل الأرض عنكم وهي نائبتي
ما عندهم إلا قصائد؛ كأنهم في سوق عكاظ، أو كأنهم في أمسية شعرية
وهذه دولة الأشباح قد حضرت فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي
قال: فمد الرسول عليه الصلاة والسلام يده، فقبلها الرفاعي ثم عادت إلى القبر.
يقولون في المثل العامي: إذا كذبت فكبر، أي: إذا تعبت في الكذبة فاجعلها كبيرة، لأنك تعبت في أصل الطريق، فلماذا تتعب نفسك ثم تأتي بشيء يسير؟ قالوا: تمخض الجمل فولد فأراً، فمن الحكمة أن إذا تعب - الكاذب في الكذبة أن يجعلها كبيرة ظلماء صلعاء شوهاء حتى تدخل أو لا تدخل أو تقبل أو لا تقبل، فهذه هي الكذبات، وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم غنية عن هذا القصص الباطل.
وهذا البرعي شاعر يمني قبوري من الغلاة، أتى إلى قبر الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال:
يا رسول الله يا من ذكره في نهار الحشر رمزاً ومقاما
فأقلني عثرتي يا سيدي في اكتساب الذنب في خمسين عاما
يقول: يا سيدي! أذنبت فاغفر ذنوبي.
هل سمعتم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يغفر الذنوب؟ هل سمعتم أنه يشافي أو يعافي؟ متى كان طبيباً في قبره عنده صيدلية؟ {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3] إنما هو مبلغ، ولو كان يعلم الغيب لاستكثر من الخير عليه الصلاة والسلام.
هذه مواقف ومعجزات، ونثني بموقف لـ جابر لنخلص إلى موقف آخر: كان الصحابة يحفرون الخندق، وكانوا يضعون الحجر على بطونهم من الجوع، وهذا دليل على أن من تفَّرخ في الدنيا، أو كبر بطنه في مآكل الدنيا، أو ثقل جنباه، أو كثرت سياراته أو أمواله، أن ذلك ليس بدليل على منزلته عند الله، يقول الشافعي:
تموت الأسد في الغابات جوعاً ولحم الضأن تأكله الكلاب
قال جابر: فحفرنا الخندق فعرضت لنا كدية (صخرة) فنزل عليه الصلاة والسلام بالمعول، فأخذه فضرب فشظ له شظية من نار، أو من نور، أو من بارق، فقال: لقد أريت قصور كسرى يفتحها الله علي، فتغامز المنافقون أحدهم دق صاحبه وغمزه، وقال: اسمع يفتح الله عليه قصور كسرى، ونحن أحدنا لا يستطيع أن يبول من الخوف، ثم يضرب صلى الله عليه وسلم الضربة الثانية فيلمع نور وهاج، فيقول: لقد أريت قصور الحيرة، وقيل: المناذرة، وقيل: القياصرة يفتحها الله علي، وأُريت الكنزين الأبيض والأحمر، وسوف يفتحها الله على أمتي، فيتغامزون، ويذكر الله هذا القصص عنهم وهم يقولون: ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً، لكن بعد سنوات يفتح الله عليه قصور كسرى وقيصر، وتدخل جيوشه مهللة مكبرة، فاتحة منتصرة، وتعطى أمته الذهب والفضة.
فلما حفروا رأى جابر الجوع بالمصطفى عليه الصلاة والسلام، وعلى بطنه حجران، فعاد جابر فتذكر هل في بيته طعام، فتذكر عناقاً صغيرةً وشيئاً من شعير، فذهب إلى زوجته، فقال: هل من طعام؟ قالت: هذه العناق -والعناق: ولد الماعز- فرآه جابر فقال لامرأته: اصنعي هذا الشعير طعاماً، وذبح العناق ووضعها في القدر، وعاد إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: يا رسول الله! معي طعام يكفي اثنين أو ثلاثة.
يقول ذلك في أذني الرسول عليه الصلاة والسلام، تكلم معه بالسر؛ لأن المسألة لا تتحمل أكثر من أربعة، طعام قليل وأهل الخندق لو سمعوا وانتشر الخبر، لأنت الداهية، سبعمائة أو أكثر من أهل الخندق، وهم في جوع لا يعلمه إلا الله، الواحد منهم يمكنه أن يأكل العناق والشعير ويدعه قاعاً صفصفاً لا ترى فيه عوجاً ولا أمتاً.
قال: يا رسول الله! أريد معك اثنين أو ثلاثة، عندي طعام قليل، فقال عليه الصلاة والسلام: يا أهل الخندق - ورفع صوته- إن جابر بن عبد الله قد صنع لكم طعاماً فحيهلاً بكم، فوضعوا المساحي وقاموا يمشون إلى بيت جابر، وأما جابر فأسقط في يده، وذهب يفكر، مرةً يقول: يمكن أن الرسول عليه الصلاة والسلام ظن أني أريد الناس، ومرةً لا يدري، فوصل إلى امرأته يبشرها بهذا الجيش العرمرم، قالت: الله ورسوله أعلم، فتقدم عليه الصلاة والسلام أمام الناس - والحديث عند البخاري ومسلم - وهو يتبسم صلى الله عليه وسلم من الواقع والحدث الذي في البيت، ومما في نفس جابر ونفس امرأته، وقال: يا جابر لا تضع البرمة على النار ولا القدر -القدر فيه الطعام، والبرمة فيها اللحم- فتقدم صلى الله عليه وسلم إلى اللحم ونفث فيه من ريقه الطيب الطاهر
ألا إن وادي الجزع أضحى ترابه من المسك كافوراً وأعواده رندا
وما ذاك إلا أن هنداً عشيةً تمشت وجرت في جوانبه بردا
نفث في الطعام عليه الصلاة والسلام، وأمر بإنزاله، ودعا الله بالبركة، وقال: أدخلهم عشرة عشرة، فدخلوا وأنتم تعرفون الحساب، وكل سبعين فيها سبع عشرات، والسبعمائة سبعون عشرة، فقال: أدخلهم عشرة عشرة، فدخلوا فأكلوا وقاموا، ثم أتى الآخرون فأكلوا وقاموا، حتى انتهى الجميع والطعام بحاله ما نقص لقمة، فأتى صلى الله عليه وسلم وقال لـ جابر: تعال، وأخذ يأكل، وهو يقول: أشهد أني رسول الله.
ونقول: نشهد أنك رسول الله {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15].