التعالي على علماء المذاهب

Q هذه قضية من أخطر القضايا التي غرق فيها من يسمون أنفسهم طلاب علم هناك بعض طلاب العلم، لا يقيم للمذاهب الأربعة ولا للأئمة الأربعة وزناً، ويقول: نأخذ الفقه من الحديث، ولا نأخذ من أبي حنيفة وابن حنبل، فهم رجال ونحن رجال، وهؤلاء يحفظ أحدهم جزءاً من القرآن الكريم، ولا يحفظ عشرة أحاديث, وهو جاهل بعلوم الأصول, والقواعد الفقهية، وجاهل باللغة وقواعدها ولا يعرف عاماً ولا خاصاً ولا يعرف ناسخاً ولا منسوخاً، فما رأي فضيلتكم؟

صلى الله عليه وسلم هذا السؤال وارد, وقد كتب فيها أهل العلم رسائل وكتباً ومجلدات, منهم: ابن الوزير في العواصم والقواصم، ومنهم: الشوكاني في رسالة في التقليد ومنهم: ابن القيم في جزء من إعلام الموقعين، ومنهم: الشاطبي في الموافقات وابن تيمية في المجلد العاشر، وتعرض لهذه المسألة وغيرهم من أهل العلم، قال ابن تيمية في أول كتاب الاستقامة: الناس في هذه المسألة ثلاثة أقسام: طرفان ووسط:

طرف قال: نأخذ علمنا من هذه المذاهب أي: الرأي، ولا ننظر إلى الكتاب ولا إلى الدليل, وهؤلاء العلماء ما أتوا بهذا العلم إلا لأن الله عصمهم وفتح عليهم، فنأخذ علومنا منهم، وقد كفونا الاستنباط، وأراحونا من تعب التحصيل وطلب الدليل، فهم مقبولون فأخذ الدليل منهم، قال: هذه الطائفة مخطئة، ثم ضرب مثلاً لا أذكره في هذا الجانب، أنتم تعودون إليه لكيلا نمس بعض الأشخاص.

وقال: وقابلتهم طائفة في الطرف الآخر وقالت: لا نلتفت لهؤلاء الأئمة الأربعة, ولا لغيرهم من العلماء -كما ورد السؤال- ونأخذ من الآيات والأحاديث، ونحن أصبحنا في درجة تخولنا إلى الاستفادة، قال: وهؤلاء مخطئون أيضاً.

وتوسطت طائفة: وهم فقهاء أهل الحديث، هكذا ينص ابن تيمية في المجلد الرابع: أهل الحديث بمنزلة الصحابة، وأهل الكلام بمنزلة المنافقين في عصره صلى الله عليه وسلم، فيقول: وتوسط فقهاء أهل الحديث وقالوا: نستفيد من آراء أهل العلم هؤلاء، أبو حنيفة رحمه الله، والشافعي وأحمد رحمهم الله والليث والأوزاعي وسفيان وغيرهم, ولكن لا نجعلهم معصومين، وإنما نطلب دليل كل واحد منهم، فعلى طالب العلم أن يطلب الدليل كما نص العلماء، فنستفيد من العلماء, لكن بشرط أن يصح الدليل، فلا يكفيك أن يقول الإمام أحمد بهذه المسألة وقال الحنابلة بهذه المسألة، ثم لا تفهم الدليل، ولا إذا أتاك من الإمام أحمد مسألة ترميها عرض الحائط وتقول: أنا رجل وهو رجل، نعم، لكن هو إمام أهل السنة وفتح الله عليه، وحفظ مائة ألف حديث في الأحكام، ومائة في غيرها, ومائة في المقطعات, ومائة من الآثار.

فالمقصود: أن نحترم هؤلاء العلماء، ونقبل علمهم بشرط أن نعرف الدليل أيها الإخوة، فإنك إن أخذت -مثلاً- مسألة القراءة وراء الإمام، فالأحناف يقولون: لا نقرأ لأن أبا حنيفة يقول: لا يُقرأ وهو إمام، فنقول: ما هو دليلكم؟ فيقولون: دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: {من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة} فنبحث عن هذا الحديث فإذا هو في الدارقطني بسند ضعيف، وإذا في مسلم: {لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب أو بأم القرآن} أفنترك هذا لأن أبا حنيفة قال هذا؟

إذاً فجواب ما تفضل بسؤاله السائل؛ أن الحكمة كل الحكمة أن نحترم هؤلاء الأربعة، ونضعهم على رءوسنا وفي عيوننا، ولا نجعل كلامهم شريعة، فإنهم كما قال أحد العلماء الفضلاء من الأحياء الآن: (يحتاج إلى كلامهم ولا يحتج بكلامهم) فننقل كلامهم ولا نمقتهم -نعوذ بالله من ذلك- لكن لا نجعلهم مشرعين وقد تعرض ابن القيم لها وقال: إنهم ليسوا مشرعين، وإنما هم علماء مجتهدون, نقبل أقوالهم إذا وافقت الدليل, فهذا ما عندي في هذه المسألة.

فملخص ما قلته: إن لطالب العلم أن يقرأ في مذهب, لكن عليه أن يتقيد بالأدلة، لا يكفيك متناً فقهياً مجرداً عن الأدلة, تأخذ حقه وباطلة وصحيحه وسقيمه، ناسخه ومنسوخه، ركيكه وجزله، ثم تقول: أنا على هذا الكتاب، لكنك تأخذ هذا المتن وتقرنه بالأدلة، وتعود إلى كلام أهل العلم، فتأخذ الصالح وترد الطالح، هذا هو المنهج السديد, وأحسن ما يعاد إليه ابن تيمية في أول كتاب الاستقامة، ورسالة الشوكاني في الاجتهاد والتقليد، وكتاب ابن رجب في كتاب فضل علم السلف على علم الخلف والذهبي في كتاب زغل العلم إلى غيرها من الرسائل، وأريد أن أختصر.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015