يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث} جمع بين العلم والهدى؛ لأنه لابد من هاتين الكلمتين، فالهدى: هو العمل الصالح، والعلم: هو العلم النافع، ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالعلم النافع والعمل الصالح؛ لأن النصارى عملوا لكن عملهم ليس بصالح، واليهود تعلموا لكن علمهم ليس بنافع، أما قال الله عز وجل في النصارى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد:27] فأضلهم الله لأنهم عملوا بلا علم، وأما في اليهود فقال عز من قائل: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:13] تعلموا العلم ولم يعملوا به، وفي اقتضاء الصراط المستقيم لـ ابن تيمية أن سفيان بن عيينة قال: وقع في هاتين الآيتين عبّاد من عبّادنا, وعلماء من علمائنا، فمن فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه بالنصارى.
قال عليه الصلاة والسلام: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث} وعبر بالغيث ولم يقل: (المطر) لنكتة؛ قال: أهل العلم مثل المطر؟ قال أهل العلم: اختار صلى الله عليه وسلم كلمة الغيث، واختُصر له الكلام اختصاراً، وهو الذي يجيد صنع الكلمة المؤثرة.
ما بنى جملة من اللفظ إلا وابتنى اللفظ أمة من عفاء
فما قال المطر؛ لأن المطر ما استخدم في القرآن إلا في العذاب، يقول عز من قائل: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف:84] فعدل صلى الله عليه وسلم عن هذا اللفظ، وأتى بلفظ أرق وأحسن وأبدع وأروع فقال {كمثل الغيث} والغيث فيه ثلاث صفات:
الأولى: صفاؤه ونقاؤه.
الثانية: أن فيه معنى الغوث، يغيث القلوب والأرواح.
الثالثة: أنه حديث عهد بربه.
كان صلى الله عليه وسلم كما في البخاري {= 7004596>إذا أمطرت السماء يخرج فيتمطر} قال البخاري باب من تمطر في المطر -يعني: إذا نزل الغيث- ثم أتى بحديث كان إذا نزل الغيث خرج صلى الله عليه وسلم بثيابه يتمطر وقال: {إنه حديث عهد بربه}.
مثل ما بعثني الله من الهدى والعلم كمثل الغيث أصاب أرضاً -وهذه الأرض هي الأمة الإسلامية وغير الإسلامية- فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير, وهؤلاء أهل الفهم والحفظ، وأهل الدعوة؛ حفظوا النصوص، وأخرجوا كنوزها، وشقوا أنهارها، وغرسوا أشجارها، وأخرجوا ثمارها، وبلغوها للأمة، وهذه أمثال أهل العلم الكبار من السلف الصالح.
وطائفة أخرى وهي الأجادب، أي: غدران، حبست الماء فنفع الله بها الناس, فسقوا, وزرعوا, وشربوا، وهذه طائفة حفظت, ولكنها ما تفقهت ولكنها أمسكت النصوص للأمة، كما يقول ابن حجر والقرطبي.
وكان منها أخرى إنما هي قيعان، لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، هؤلاء لا حفظوا ولا تفقهوا، ولا تعلموا ولا علموا ولا تبصروا -نسأل الله العافية والسلامة- فقال عليه الصلاة والسلام حاكماً على الطوائف الثلاث: {فذلك مثل من نفعه الله بما أرسلني به فَعِلم وعَلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً, ولم ينفعه ما بعثني الله به} صدق صلى الله عليه وسلم.