ومن قواصم الظهر التي تضم مع قاصمة الظهر الكبرى: كبائر المعاصي، والله عز وجل ندد بالعصاة، والذي يأتيك بأحاديث الرجاء دون أن يذكرك بالخوف، معناه أنه يريد أن يتسامح، وأن يعفيك من عهدته، وأن يقول لك: لا بأس أن تخطئ وتعصي الله، يقول الله عن بني إسرائيل لما عصوا: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ} [المائدة:13] هذه أربع مصائب بسبب المعصية، ومن يفعل ذلك، ويداوم ويصر على المعصية، يبتليه الله بهذه الأربع: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [المائدة:13] عهدك مع الله، وصلتك به صلاتك صيامك حجك ولاؤك وبراؤك لله؛ لأن كثيراً من الناس يصلون، ولكن ولاءهم وبراءهم لغير الله.
قد تجد إنساناً مستقيماً يصلي الصلوات الخمس، يقرأ صحيح البخاري، يبكي إذا قرأ مدارج السالكين، ولكن ولاءه لنادٍ رياضي من النوادي، يبكي إذا هزم، ويفرح ويسهر الليل إذا انتصر، يعادي كل من يعادي هذا النادي، ولو كان من الصحابة والتابعين، لماذا؟ لأنه جعل ولاءه وحبه لغير الله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55].
ووجد كذلك -ليس في هذا المكان العامر الطاهر الذي ما أتاه إلا دعاة وأساتذة وأبطال الإسلام- من يشجع بعض المغنيين، فيؤيده وينشر محاسنه في الناس، ومناقبه وتاريخه في المجالس، وفي الحقيقة لا مناقب ولا محاسن ولا تاريخ، وينوه بأغانيه وهو ينشر الفاحشة والمعصية في المجالس والمنتديات، قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} [المائدة:13] نعوذ بالله من اللعنة، هذه من علامة الاستمرار والجمود على المعاصي وعدم التوبة {لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة:13] القلوب القاسية أكثر ما يقسيها قواصم الظهر وهي المعاصي، يوم يقترف الإنسان من المعاصي العشرات في اليوم، ثم لا يستغفر ولا يتوضأ ولا يتوب، ولا يبكي ولا يندم، تجتمع عليه المعاصي فيطبع الله على قلبه فيصير ميتاً، فإذا صار ميتاً يرتكب كبائر الذنوب ولا يحس بها، يقول المتنبي:
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
الإنسان إذا مات وأتيت بخنجر تطعنه هل يحس؟! لا.
لأنه ميت.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: [[المؤمن يرى كأن ذنوبه جبل يريد أن يسقط عليه، والمنافق يرى كأن ذنوبه ذباب وقع على أنفه فقال به هكذا]] تجده يشرب الخمر ويزني ويفجر ويكذب، فإذا قلت له: اتق الله، قال: إن الله عفور رحيم، ما حفظ من القرآن إلا هذا المقطع، فإذا قلت له: اتق الله، قال: رحمة الله وسعت كل شيء، ونسي: {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة:2] فهذا وأمثاله يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فيهم: {لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة:13] والله لام بني إسرائيل، وقال للمؤمنين: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] ولكن أملنا الله في فضله، ورجانا في خيره وبره، فقال: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد:17] بالأمطار، فيا من يحيى الأرض بالأمطار، فتنبت أنواع الأزهار والأشجار! نسألك يا واحد يا قهار يا غفار! أن تحيي قلوبنا بالإيمان، وأن تجعلنا من سكان تلك الدار.
هؤلاء هم المؤمنون، ولكنهم يخافون المعاصي.
{لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:13] وقد وقع في هذه الأمة هذه الجزاءات، وقعت في أمة الرسول صلى الله عليه وسلم ووجد من لعنه الله، عالم لم يعمل بعلمه فاجر كبني إسرائيل، ووجد جاهل أعمى يعبد الله بالجهل فهذا قاسي القلب، ووجد من أهل البدع من يحرف الكلم عن مواضعه، يحرف الألفاظ والمعاني كما ذكر ابن تيمية.
{وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13] نسيان العلم، ونسيان الفهم دليل على كثرة المعاصي، {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282].
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي
أكبر ما يحبطك بعد النفاق، ويحبط مسعاك، ويعطل مستقبلك قاصمة الظهر المعاصي، وخاصة الكبائر.
لنعش مع الأنبياء ونسمع موقفهم من الذنوب، لنقول لذلك المترسل في الخطيئة، الذي انهمل في الذنب تلو الذنب، وذكرنا بالرجاء لكنه ما فتح لنا باب الخوف، لنقل: اسمع إلى إبراهيم عليه السلام، الذي أسس التوحيد، وبنى جداره، ونشر الحنيفية في الأرض، يقول عليه الصلاة والسلام في آخر دعائه {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82] طمعاً، لم يقل: والذي يغفر لي خطيئتي يوم الدين، قال: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82] وإنه والله رجاء، وإنها والله لوعة، وإنه أسى يوم يقول عليه السلام وقد جاهد وبنى البيت، ورفع علم لا إله إلا الله، ومد هذه الشريعة، وعمق هذا المبدأ، ثم يقول في الأخير، ويرفع كفيه وهو على شفير القبر، وفي سكرات الموت: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82].
يونس بن متى عليه السلام، خرج مغاضباً، وألقي في البحر، فأصبح في ظلمات ثلاث: ظلمة اليم، وظلمة الحوت، وظلمة الليل، فمن يذكر؟ لا زوجة ولا ولد ولا أهل، لا مال ولا منصب:
فاشدد يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
قال: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] كلمة والله ما كأنه يوجد أروع منها في الإسلام! يقول عليه الصلاة والسلام: {ما من مهموم أو مغموم أو مكروب يقول: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، إلا فرج الله همه، وأزال غمه وكربه} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فاستجاب الله له؛ لأنه اعترف بذنبه، ففي هذه السكرات أعلن التوحيد، والله يقرن بين التوحيد والاستغفار، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] فقال: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] أنا مذنب، فنجاه الله، قال سبحانه: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143 - 144].
لماذا لم ينج الله فرعون وقد قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ} [يونس:90] وهي: نفس الكلمة أو قريبة منها؟! لأنه أنكر الله في الرخاء.
وأما يونس عليه السَّلام فقد عرف الله في الرخاء، لأن له سجل حسنات وذكريات وأياماً محفوظة، وفرعون له أيام وصحائف سود، داس التاريخ تحت قدميه فلم ينفعه ذلك.
كثير من الناس وبالخصوص أهل الشباب والقوة والغنى لا يعرفون الله إلا إذا أصبحوا على الأسرة البيضاء في المستشفيات، كثير من الناس لا يعرفون الله إلا إذا أصبحوا شيوخاً كباراً، فيأتي الواحد منهم يراجع حسابه وهذا جيد، لكن أين قوتك وصحتك؟ وأين شبابك وفتوتك؟ هل استثمرتها في طاعة الله؟!
سليمان عليه السلام شكا المعاصي والخطايا فقال: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص:35].
نوح عليه السلام ذكر قومه فقال: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10 - 12].