الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثراً.
أمَّا بَعْد: عنوان هذا اللقاء (نشرة الأخبار) وهو عنوان عصري، والسلف لهم عناوين أخرى، وهي أنه كان من منهج القرآن أن يُسأل القادم عن خبره، وكان عليه الصلاة والسلام إذا نزل به نازل سأله عن اسمه ونسبه وعن قبيلته، فآثرت هذا العنوان، وسوف أذكر الموجز، ثم التفصيل إن شاء الله، ولعله أن يكون هناك فائدة، ولعل من قوالب الحق التي يعرض فيها ما ينفع، كلما تعددت الأساليب.
دخلت الملائكة على إبراهيم عليه السلام، وكان من أكرم الناس، وله روغتان في القرآن: روغة كرم، وروغة شجاعة {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} [الصافات:93] هذا في الأصنام {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] وراغ هنا، أي: ذهب بخفية، مثلما يذهب الكريم، فإنه إذا دخل الضيف بيت الكريم، يقوم الكريم فيروغ بخفية ويأخذ السكين بخفية، ويذبح الخروف بخفية.
وأما البخيل: فيتحنحن ويتمنمن، ويلقي محاضرات، ويستعيذ بالله من الشيطان، ويَسنُّ شفرته أمام الضيف، ويصلي ركعتي الاستخارة، ويسأل الضيف هل أنت مقيم فنجعله عشاء، أو أنت مسافر فنجعله غداء، وما تأتي هذه الوجبة حتى يمل الضيف المجلس، ويسأل الله عز وجل أن يفرج عليه هذه الكربة.
إبراهيم لما دخلت عليه الملائكة قام سريعاً -وانظر إلى الكرم- وذهب عليه السلام إلى عجل -ولم يقل خروفاً- كان العجل سميناً وهذا لا يفعله إلا كرماء الناس، وأيضاً مع أن الضيوف كانوا ملكين أو ثلاثة ومع ذلك يذبح عجلاً سميناً، قال أهل العلم: إذا وجد من يأكل الطعام فلا عليك ولو كثرت.
ولفظ القرآن، قال: (سمين) وليس بهزيل، وفي سورة هود: (حنيذ) وقد جمع بينهما أهل العلم، قالوا: عجل سمين وحنذه؛ لأن الحنيذ يأكل منه الضيف أكثر ومن جرب عرف، والتجربة أكبر برهان {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} [الذاريات:27] ومن حكمة الله عز وجل وقدرته أن خلق الملائكة من نور لا يأكلون الطعام، فلما قدمه إليهم, قال ابن القيم: فيه أدب، فمن الأدب أن تقدم الطعام إلى الضيف، لا تقدم الضيف إلى الطعام، ولذلك نحن ابتعدنا عن الأدب الإسلامي الأصيل، يوم جعلنا الضيف يقوم إلى السفرة، وما نجعل السفرة تقدم إلى الضيف، هذا هو الأقرب لكن لا غضاضة، والمسألة فيها سعة.
(فقربه) ولم يقل: قربهم إليه، وإنما قرب الطعام إليهم, وفي ذلك راحة للضيف لأنه جالس والطعام يأتي إليه، وقد كان الأولون يفعلون ذلك، حتى أتت المدنية فجعلوا سفرة الطعام في مكان، والمجلس في مكان, والغسالة في مكان، والنشافة في مكان، فلما قربه إليهم نظر إليهم، قال: {أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:27] وهذا من الأدب، فإنه لم يقل ما لكم لم تأكلوا! نحن تعبنا وسلخنا وذبحنا، وإنما قال: {أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:27] فقالوا: نحن لا نأكل، قال: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} [الحجر:57] سألهم: ما هو الخبر؟ وهذا هدي الإسلام, وهو أدب عربي قح، والعربي كان إذا نزل به الضيف سأله عن أحواله وأخباره.
وعند الترمذي بسند فيه ضعف: {إذا عرف أحدكم أخاه فليسأله عن اسمه وعن نسبه، فإنه واصل المودة} وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13] فالأصل أن تسأل الضيف الذي نزل عندك، ممن أنت؟ ومن أي قبيلة؟ -وليس هذا من العنصرية- هل جاءكم مطر؟ كيف أهلكم؟ لأنك إذا سكرت شفتيك خاف منك الضيف، والبخيل لا يتحدث مع الضيف، وإنما يسارقه النظر، ويعد لقمات الضيف، وينظر هل كبر أم صغر، ويكاد يبتلعه، حتى ينطوي الضيف وينقبض.
قال العربي الأزدي والأزد جدكم:
أحادث ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والمكان جديب
وما الخصب للأضياف أن يُكْثَر القِرى ولكنما وجه الكريم خصيب
فقبلما يضع السرج من على الحمار، أو القتم من على الجمل، فيبدأ صاحب البيت بالترحيب بالضيف وهو لا يزال في الحوش والجرين وهذا من الكرم، قال عليه الصلاة والسلام -كما في صحيح مسلم - لوفد عبد القيس لما سألهم: {من القوم؟ قالوا: من ربيعة، قال: مرحباً بالقوم غير خزايا ولا نداما}.
فالسنة إذا قدم إنسان بعد أيام أو أسابيع أن يتحدث لإخوانه وأحبابه بأخباره، وأنا لا أعلم أحباباً أحب إلينا منكم -يشهد الله تعالى- في الله عز وجل؛ لأنا نعلم أنكم صفوة المجتمع، وأنتم جلستم في بيت الله وتركتم أعمالكم وأتيتم تسمعون ذكر الله، فحفت بكم الملائكة، وتنزلت عليكم الرحمة، وغشيتكم السكينة، وذكركم الله فيمن عنده، والله يقول لكم في آخر المجلس: {انصرفوا مغفوراً لكم؛ فقد أرضيتموني ورضيت عنكم -فنسأل الله الكريم من فضله- فتقول الملائكة: يا رب! عبدك فلان فيهم ما جلس إلا هكذا -أي: ليس له غرض في الجلوس- قال: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم}.
ولذلك كان علماء السلف لا يدعون مجالس الذكر مع أنهم كانوا أعلم من المتكلم وأفقه، ومع ذلك يريدون دعوة مستجابة، أو مغفرة من الحي القيوم.