الأمر الثاني: أن يكون ليناً في دلالته، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] يقول الله للداعية الكبير الذي ما طرق الدنيا داعية مثله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ويقول: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم} [الأنفال:63] أرأيت أكبر من فرعون طاغية في الدنيا؟ أسمعت أكبر من فرعون مجرماً في المعمورة؟ لا.
أرسل الله له موسى، فأوصى الله موسى وهارون وهما في الطريق ذاهبان إلى ذاك الطاغية، فقال: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
إننا يوم ندعو الناس رجالاً وإناثا، كباراً وصغاراً، رؤساء ومرؤوسين إلى طريق الجنة لابد أن ندلهم على طريق الجنة ونحن رحماء ولينين وسهلين كقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح لما أرسل أبا موسى ومعاذاً: {بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا} إن الدليل الماهر لا ينفر القلوب، والموجه لا يخدش الكرامات، والداعية لا يجرح الشعور، إنه يدل على الجنة لكن بإيمان وحب وطموح، فقال الله لموسى وهارون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] احذرا أن تجرحا شعوره، احذرا أن تغضبا هذا المجرم فتأخذه العزة بالإثم فيكفر.
وفي تفسير ابن كثير عن سفيان الثوري، العالم الجهبذ يقول: [[أتدرون ما هو القول اللين؟ قالوا: لا.
قال: يأمره الله أن يكني فرعون، أن يدعوه بالكنية، أن يقول: يا أبا مرة]] قال أهل التفسير: كنية فرعون أبو مرة -مرر الله وجهه في النار- فدخل موسى يقول: يا أبا مرة! ندعوك إلى طاعة الله، إن الله سوف يبقي عليك شبابك وملكك وصحتك، يا أبا مرة! إننا نعرض عليك الرسالة الخالدة ونحو هذا الكلام، والكنية تكسب المدعو قيمة وحفظاً وجاهاً.
أكنيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقبه والسوءة اللقب
كذاك أدبت حتى صار من خلقي أني وجدت ملاك الشيمة الأدب
فالمقصود: أن على من دل على طريق الجنة أن يكون ليناً، ولقد مني الإسلام في بعض جوانبه بشيء من الصلف في الدعوة والعنف في التوجيه، والشدة والغلظة في التربية، يوم يأت الداعية فينظر إلى نفسه أنه طاهر عفيف، وأن الناس مذنبون فيتهكم بهم، ويريد أن يحولهم في نصف ساعة إلى أن يصبحوا في درجة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، يوم يقوِّم الدنيا ويقعدها على مسائل سهلة لا يتدرج فيها، إنه قد أخطأ في ذلك، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الداعية أن يتدرج، وقد أرسل معاذاً إلى اليمن فكلمه عن نوعية الناس الذين سيرسل إليهم تمهيداً له فقال: {إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله فإن هم أجابوك لذلك -لم يحشر عليه المسألة الثانية لكن- فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة} والرسول عليه الصلاة والسلام حين أتى إلى الأمة العربية، إلى أمة العنف، أمة لا حضارة تربطها، ولا ثقافة تؤسس مبادئها، ولا معرفة تنظر مسيرتها، أمة مبعثرة، قبيلة تطحن قبيلة وأخرى تلعن أخرى، فأتى صلى الله عليه وسلم بالحب، فيتبسم صلى الله عليه وسلم لعدوه اللدود فيكسب قلبه، وابن عمه الذي أخرجه وحاربه يقول له: عفى الله عنك، وقريش التي أخرجته وحاربته يقول: {اذهبوا فأنتم الطلقاء} قال الله عز وجل: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63] كيف ألفت بين قلوبهم؟ إنه اللين والسهولة، والمودة والقرب {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
أيها الإخوة: إن هذه الجلسة كانت لقاء مفتوحاً، لكن أكتفي بذلك لأدع وقتاً للإجابة على الأسئلة ما يكون فيها إن شاء الله عوضاً على ما بقي من حديث، ولكن هذه كالتقدمة والديباجة أمام هذا الجيل السائر إلى الله الواحد الأحد، السائر إلى الجنة بإذنه تعالى، المتطلع إلى رضوانه تعالى، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
شكر الله لكم وأثابكم، وجمعنا بكم في دار الكرامة، يوم يتقبل الله منا -إن شاء الله- أحسن ما عملنا ويتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.
هينون لينون أيسار بنو يسر صيد بهاليل حفاظون للجار
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.