فلما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم كتائبه مشرقة ومغربة؛ تنشر (لا إله إلا الله) في المعمورة، كان من ضمن من أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سليمان خالد بن الوليد سيف الله المسلول، أرسله إلى جبل أجا وسلمى، حيث قبائل طيء، فلما سمعت بمقدم خالد؛ فرت القبائل لا تلوي على شيء، وذهبت بنصرانيتها إلى الشام.
وكان من ضمن من فر عدي بن حاتم الطائي ابن كريم العرب، وترك أخته في بيته، فنزل خالد وتمركز بجيشه هناك، وسبى سبايا، وأخذ أسارى، وعاد بهم إلى عاصمة الإسلام، إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من ضمن الأسارى: سفانة بنت حاتم الطائي الكريم المشهور، والجواد العظيم، وأنزلهم خالد حول المسجد، وقامت سفانة إلى علي رضي الله عنه وأرضاه، وقالت: اشفع لي إلى ابن عمك، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال علي: إنا لا نشفع إليه، ولكن إذا خرج إلى الصلاة، فسوف ينظر إليكم، فتشفعي عنده واذكري أباك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلم الناس وأبرهم وأوصلهم.
وخرج صلى الله عليه وسلم لصلاة العصر ومعه بعض الصحابة، وفي طريقه استعرض الأسارى، فقامت سفانة، وقالت: يا رسول الله! إن أبي كان يحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الدهر، أنا بنت حاتم الطائي كريم العرب، فاعف عني عفا الله عنك.
فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه، وقال: {خلوا عنها؛ فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، ثم قال: يا هنتاه، لو أن أباك مات مسلماً لترحمنا عليه} ثم أكرمها صلى الله عليه وسلم، وأعادها صيّنة محتشمة إلى ديار أهلها؛ فلقيت أخاها عدي، فقالت: يا قطوع، يا عقوق! تركتني وفررت، جئتك من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً، من عند أبر الناس، وأوصلهم، وأرحمهم.
فتهيأ عدي ولبس لباسه، وركّب صليب النصرانية على صدره، وأتى إلى المدينة، وتسامع الناس أن ابن حاتم الطائي قادم، أو أظل المدينة ضيفاً؛ فخرجوا في استقباله، واستقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجلسه في بيته، وقدم له مخدةً ليجلس عليها، فأبى وجلس على التراب، فقال له صلى الله عليه وسلم: {أشهد أنك من الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً}.
وبينما هو جالس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بروح القدس، وإذا بجبريل عليه السلام ينزل بآيات الله البينات، فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمناسبة مقدم عدي بن حاتم، وهي قوله تبارك وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:30 - 31] فقال عدي، وعرف أن الخطاب له، وأنه المقصود بلفظ الفحوى "إياك أعني واسمعي يا جارة" فقال: {ما عبدناهم يا رسول الله.
فقال صلى الله عليه وسلم ونظر إليه: بل عبدتموهم، أما أحلوا لكم الحرام فأحللتموه، وحرموا عليكم الحلال فحرمتموه؟ قال: بلى.
قال: فتلك عبادتهم}.
ثم تنمر له صلى الله عليه وسلم، وقرب منه، وأخذ بتلابيب ثيابه وقال: {يا عدي! أتفر أن يقال: الله أكبر في الأرض؟ هل تعلم أكبر من الله؟ أتفر يا عدي أن يقال: لا إله إلا الله في الأرض؟ هل تعلم إلهاً مع الله؟ فانتفض عدي وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله} وانطلق لسانه يلهج بنغمة التوحيد، وقلبه يرتعد بنغمة لا إله إلا الله.
والمقصود من هذا كله: أنه لا عظيم إلا الله، ولا يحلف إلا بالله، ولا يتوكل إلا على الله، ومن توكل عليه كفاه، ومن عظَّم الله عظمه الله، ومن امتهن أسماء الله أمتهنه الله وحقره وأذله.