أول العقبات في طريق الدعوة: اتباع الهوى.
إن الهوى إله يعبد من دون الله، وما ترك الطريق المستقيم من تركه إلا لأنه اتبع هواه، وهواه إما أن يبقى ضالاً، أو شقياً أو تعيساً، أو يبقى مصاحباً لفاجر، أو عبداً لأغنية، أو متعلقاً بصورة، أو متلذذاً بفجور، أو منتكساً على عقبه، لا يعرف المسجد، ولا القرآن ولا الهداية، ولا طريق الجنة، قال سبحانه: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26] والهوى يغلب العقل، نعوذ بالله من اتباع الهوى.
وآفة العقل الهوى فمن علا على هواه عقله فقد علا
وبعضهم يقول:
وآفة العقل الهوى ومن علا هواهُ عقلَهُ هواه فقد هوى
أي: إذا علا هواك على عقلك؛ فقد هويت على رأسك في نار جهنم -والعياذ بالله- وقال سبحانه: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28].
وسبب نزول الآية عند المفسرين: أن الرسول عليه الصلاة والسلام جاءه قوم من الكفار من عبدة الأوثان وشربة الخمر والزناة، أهل الدعارة والكبر، لابسي الذهب والحرير، قالوا: يا محمد، إن كنت تريد أن تدعونا، فأخرج هؤلاء المساكين والعبيد والفقراء من عندك، فإنا من علية القوم ولن نجلس مع هؤلاء، فهمَّ عليه الصلاة والسلام أن يخرجهم وكان منهم بلال وابن مسعود، وأمثالهم وأضرابهم.
هَمّ أن يخرجهم من المجلس؛ فأنزل الله قوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الكهف:28] يقول أحد العلماء معلقاً: اصبر مع المساكين، اجلس مع الفقراء، فالخير معهم، والنصر معهم؛ لأنهم صادقون، قبلوا الإسلام بلا طلاء، وقبلوا الإسلام بلا رشوة، وقبلوا الإسلام بلا تأليف، وهم الذين سوف تقوم عليهم الدعوة غداً.
{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] فقال عليه الصلاة والسلام: بل أجلس معكم، فجلس معهم عليه الصلاة والسلام.
وصح أنه عليه الصلاة والسلام أراد أن يكسب ود كبار وسادات قريش المترفين، وكان ابن أم مكتوم يريد أن يسأله مسألة، وكان مسلماً قد نور الله قلبه، ومع أنه أعمى البصر فقد كان منور البصيرة، وسماه الله في القرآن أعمى، ولكن في سورة الرعد قال سبحانه: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد:19].
الأعمى هو من عميت بصيرته، وعمي قلبه، ولم يعرف طريق الاستقامة، ولا طريق المسجد، ولم يحمل القرآن، ولم يعش الدعوة والذكر.
جاء ابن أم مكتوم فأجلسه عليه الصلاة والسلام، فجاء كبراء مكة فصد عنه عليه الصلاة والسلام واستقبلهم واحتفى بهم؛ لأنه يريد أن يكسبهم، وأتى العتاب من الواحد الأحد: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:1] عبس محمد وتولى عليه الصلاة والسلام لماذا تعبس وتتولى؟ {أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس:2] لأنه فقير مسكين تعرض عنه؟! ألا تدري أنه يحمل قلباً سليماً يقول سيد رحمه الله في الظلال: أما تعرف أن هذا الرجل الأعمى سوف يكون منارة من منارات الأرض تستقبل نور السماء، وبالفعل أصبح هذا الأعمى منارة من منارات الأرض تستقبل نور السماء، حياً على الهواء مباشرة، وحضر معركة القادسية وقال: احملوني أقاتل، وقالوا: أنت معذور لأنك أعمى، قال: والله الذي لا إله إلا هو لا أسمع قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41] وأتخلف! فحملوه وحمل الراية، وقتل في سبيل الله.
هذا هو الأعمى.
أما الكبراء، فقتلوا في بدر إلى نار جهنم، إلى نار تلظى، وقدمهم عليه الصلاة والسلام هدية وقرباناً إلى الواحد الأحد، قتلهم وقطع رءوسهم؛ لأنهم ما عرفوا الهداية والنور.
قال سبحانه: {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:16] هذا الخطاب لموسى حتى عرفه الله على نفسه أكبر تعريف، والداعية عليه أن يعرف الله عز وجل، إذا سئل عنه أن يقول: هو الله الذي لا إله إلا هو، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19].
قال الله سبحانه لموسى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14] وهذا تعريف لله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
ذُكر أن سيبويه صاحب الكتاب في النحو رئي في المنام بعد موته، قالوا: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي ذنبي قالوا: بماذا؟ قال: كتبت في كتابي الكتاب لما وصلت إلى لفظ الجلالة: الله أعرف المعارف غني عن التعريف.
فلقد استحيا سيبويه أن يعرف الله عز وجل، وآياته شاهدة بألوهيته.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
فهنا يقول: {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [طه:16] والهوى قد يكون في زوجة تصدك عن منهج الله، وقد يكون في أغنية، وقد يكون في مسرحية، وقد يكون في سيجارة، وقد يكون في لعبة، وقد يكون في معصية هائلة تصدك عن منهج الله.
وقال سبحانه: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:14] ولذلك دعي كثير من الناس، فأبطأ بهم الهوى وصدهم عن منهج الله، وقال سبحانه مبرأً رسوله عليه الصلاة والسلام من الهوى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:3 - 5].
لا يعرف الهوى، ولا يمر به الهوى، بل هو مقيد بالكتاب والسنة عليه الصلاة والسلام، قال سبحانه: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43] أي: جعل معبوده هواه، يطيع الهوى: يقول له الهوى: تعال إلى الفراش ولا تصلِ فيجيب، ويقول له: اترك القرآن وتعال إلى الأغنية، أو لا تصاحب أولئك الصالحين، واصحب هؤلاء المعرضين الفاجرين، فيقول له الهوى: لا تسبِّح فيجيب.
متى يهديك قلبك وهو غافٍ إذا الحسنات قد أضحت خطايا
متى يهديك عقلك؟ متى تهتدي إذا لم تعلم أن داءك في هذا الإعراض -والعياذ بالله- وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {ثلاث مهلكات: اتباع الهوى، وإعجاب المرء برأيه، وشح مطاع}.
فأما اتباع الهوى وأن يقودك عقلك إلى كل مكان، فتسقط فيه، أي أن هواك يغلب عقلك، فتقع في شرك الهوى -والعياذ بالله من الهوى- والهوى يردي، وهو منتشر عند الناس، فأعظم عقبة في وجه الدعاة تصادفهم هي: اتباع المدعوين لهواهم، تقول للرجل: تب، فيريد ولكن يقول له هواه: لا تفعل.
تريد الناس أن يتوجهوا إلى المسجد، فيقول هواهم: لا تفعلوا.