رفع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالبلاء درجة الأنبياء، ومحا به خطايا الصالحين، وإبراهيم عليه السلام أستاذ العقيدة، ومعلم التوحيد، الذي بث مذهب التوحيد في الدنيا وأسسه، فكان رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أشبه الناس به، ابتلاه الله بمصائب، منها أنه جمع له حطب ثم أوقدت النيران ثم ردي في النار، فانقطعت به الحبال إلا حبل الله، وأوصدت أمامه الأبواب إلا باب الله، لكن انظر إلى التوكل على الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، أتاه جبريل فقال: ألك إلي حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم، فلما ألقي في النار ماذا قال؟ قال: حسبنا الله ونعم الوكيل.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم لما ألقي في النار، وقالها رسولنا صلى الله عليه وسلم لما قيل له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران:173 - 174] فلما ألقي في النار تذكر عظمة الله، وألا كافي ولا حافظ ولا حامي إلا الله:
يا واهب الآمال أنـ ت رعيتني ومنعتني
وعدا الظلوم عليَّ كي يجتاحني فنصرتني
فانقاد لي متخشعاً لما رآك منعتني
فالمانع هو الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فلما وقع في النار، أتت عناية الله عز وجل فقال الله عز وجل: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] لو قال برداً وسكت، لأصبحت زمهريراً يقطعه، ولكن قال: وسلاماً أي: بهدوء وراحة وعافية وصحة.
وابتلاه الله بابنه، فلما شب إسماعيل عليه السلام -على الراجح من أقوال أهل العلم- وبلغ معه السعي، ودرج وسار وأتى، والابن إذا أصبح في هذه السن، أصبح يشاغف حبه القلب، لأنه إذا كبر قليلاً نقص حبه، ثلاثة يحبون في ثلاثة مراحل: المريض حتى يشفى، والغائب حتى يحضر، والصغير حتى يكبر، والصغير جداً من الأطفال قد لا يحب، ولكن توسط الحب بلوغ السعي، فيصبح شجى القلب، وشغاف الروح، فأراد الله أن يخلي قلب إبراهيم بحبه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأنه الخليل.
قد تخللت مسلك الروح مني ولذا سمي الخليل خليلا
فكان من مقامات الخليل أن يكون أحب شيء إليه هو الله عز وجل، فلما بلغ معه هذا الابن الصالح السعي ابتلى الله أباه، فرأى في المنام ورؤيا الأنبياء حق -وعقد لذلك البخاري باباً في صحيحه: باب رؤيا الأنبياء حق- {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102] فقام الصباح بعد أن تأكد من الرؤيا فعرض الرؤيا على ابنه، لا مستشيراً ولكن ينظر إلى رد هذا الولد الصالح، فكان رده رد المؤمن الموحد: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:34]:
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه
فلما علمه ولقنه التوحيد وأرضعه مع اللبن عقيدة لا إله إلا الله {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102] فماذا قال؟ قال: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] وما أحسن التواضع! لم يقل افعل ما تؤمر ستجدني من الصابرين، وإنما قال: إن شاء الله، فالصبر والتثبيت منه تبارك وتعالى، فتقدم إليه، ولذلك يقول الله سبحانه: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} [الصافات:106] لأنه ابتلاء ما سمع بمثله، ابنك، وقد بلغ السعي، بل صالح، ثم يأمرك الله أن تباشر الذبح أنت بنفسك، ما قال: يا إبراهيم مر فلاناً أن يذبح ابنك وأنت تختفي!! لا، بل خذ أنت السكين واذهب إلى ابنك واطرحه أمامك ثم اذبحه، فامتثل لهذا، فرفعه الله، وأثبت لله أنه صادق، وأنه من المحسنين وترك له لسان صدق في الآخرين، فالألسنة تثني عليه، وتمدحه أبد الدهر.
فعليه السلام أولاً وآخراً، وجزاه الله في مواقف الصدق خيراً وأجراً ومثوبة.