المسألة الأولى: وداعه صلى الله عليه وسلم لأصحابه: والعرب في جاهليتها كانت أحسم ساعة عندها ساعة الوداع والفراق.
قيل لـ جعفر بن محمد الصادق: لماذا لا تصاحب الناس والإخوان؟ قال: أخاف وحشة الفراق.
وكان الحسن البصري رحمه الله تعالى إذا ودع أصحابه بكى وقال:
هو الدهر قد يعطيك من فلتاته رزية مال أو فراق حبيب
وابن المبارك ودع أصحابه وهم سائرون في الغزو؛ فبكى كثيراً، وقال:
بغض الحياة وخوف الله أخرجني وبيع نفسي بما ليست له ثمنا
إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
وعمر بن الخطاب كانت من أسعد اللحظات في حياته تلك الساعة التي ودَّع فيها رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال له: {لا تنسنا يا أخي من دعائك}.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول هذا لـ عمر، والحديث في الترمذي وقد تكلم فيه بعض أهل العلم، لكن الصحيح أنه حديث حسن، قال: {لا تنسنا يا أخي من دعائك} فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول هذا وعمر حسنة من حسناته، وتلميذ من تلامذته، وقد كان عمر ذاهباً ليعتمر.
ثم يقول عمر وهو يبكي ويتذكر هذه الكلمة بعد وفاة المصطفى عليه الصلاة والسلام: [[كلمة ما أريد أن لي بها الدنيا وما فيها]].
والرسول عليه الصلاة والسلام كان إذا ودع أصحابه كما في صحيح مسلم من حديث بريدة بن الحصيب يقول: {أستودع الله دينكم، وأمانتكم، وخواتيم أعمالكم} وفي الصحيح أن ابن عمر قال: {كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ودع أحدنا قال: استودع الله دينك، وأمانتك، وخواتيم عملك}.
فالمسلم ينبغي له أن يقول هذا الدعاء، فإن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إذا استودع على شيء حفظه، والله لا تضيع ودائعه، وأحسن وأعظم ما يحفظه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى هو الدين، والعمل، والإخلاص، والتوجه، وخواتيم العمل.
وفي السيرة لـ ابن هشام وابن إسحاق قصة عبد الله بن رواحة وقد ذكرها ابن كثير وهي أن ابن رواحة لما ودع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان أرسله يغزو في سبيل الله في مؤتة وهي قريبة من معان، فتخلف ابن رواحة عن أصحابه وصلى الجمعة مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال له عليه الصلاة والسلام: {ما خلفك عن أصحابك؟ قال: ليكون آخر عهدي بك أن أراك على المنبر، فقال صلى الله عليه وسلم: لقد فاتتك غدوة خير من الدنيا وما فيها} فلما ودعه بكى ابن رواحة، فقال الصحابة: مالك تبكي يـ ابن رواحة! أعادك الله علينا بالخير؟ قال: لا والله.
لكنني أسأل الرحمن مغفرة وطعنة ذات فرغ تقذف الزبدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي يا أرشد الله من غاز وقد رشدا
فكان الصحابة كلما مروا على قبره يتباكون، ويقولون: يا أرشد الله من غاز وقد رشدا- ولما انتهى نظر ابن رواحة إلى النخل وفيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال وهو يبكي:
خلف السلام على امرئٍ ودعته في النخل خير مودع وخليل
وودع صلى الله عليه وسلم معاذاً وقد ذكر القصة الذهبي في سير أعلام النبلاء في المجلد الأول، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم ودع معاذاً فبكى معاذ طويلاً؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال له: {يا معاذ! لعلك لا تراني بعد اليوم، فبكى معاذ كثيراً، فقال له صلى الله عليه وسلم: لا تبك فإن الجزع من الشيطان، ثم قال له: اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن} وهذه رواية الترمذي، وزاد غيره من أهل السير: {اذكر الله -يا معاذ - عند كل شجر وحجر ومدر} فأوصاه بتقوى الله وذكره والتوبة.
والرسول صلى الله عليه وسلم قد ودع كثيراً من أصحابه فكان يوصيهم بذكر الله وبتقوى الله عز وجل كما ودع أبا ذر.
قال بريدة بن الحصيب: [[كان إذا كان لنا قائد في الغزو اختص صلى الله عليه وسلم بهذا القائد، فأوصاه بتقوى الله في ذات نفسه، ثم خطب في الناس فأوصاهم بتقوى الله عامة]].
وأما أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، فإنه استعرض الجيش -الغازي في سبيل الله- الذي خرج إلى الشام، وكان أميره يزيد بن أبي سفيان أخو معاوية، وهو خير من معاوية وأفضل عند أهل السنة والجماعة، فودعه أبو بكر وأوصاه بتقوى الله، وقال: [[الله الله في الإخلاص، ثم قال: إنما ثقل الحق على قوم لأنهم ملوه، وإنما خف الباطل على قوم لأنهم أحبوه]] ثم ودعه، وودع خالداً ودعا له كثيراً.
وعمر رضي الله عنه وأرضاه ودع جيش سعد الذي ذهب إلى القادسية، وخطب فيهم خطبة عظيمة، ثم أخذ سعد بن أبي وقاص ومال به عن الجيش، وقال له: [[يا سعد بن وهيب! - سعد هو: سعد بن مالك بن أبي وقاص، لكن سماه سعد بن وهيب ليصغر من شأنه في نفسه، ويحقره كي لا تعجبه نفسه- قال: يا سعد بن وهيب! لا يغرنك قول الناس أنك خال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب، وإن أفضلهم عند الله عز وجل أتقاهم]] ثم أوصاه وذهب.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يوصي الناس بالاستخارة قبل السفر.
قال أهل العلم: الاستخارة قبل السفر في السفر الذي ما ترجحت مصلحته، فأنت مضطرب لا تدري أتقدم على هذا السفر أم تحجم، فكان من الحكمة أن تستخير الله عز وجل، أما سفر حج أو عمرة أو طلب علم، فهذا واضح، وإن استخرت فلا بأس وأنت مأجور على هذا، لكن السفر الذي لم يظهر لك وجه المصلحة فيه فعليك أن تستخير الله، بعد أن تتوضأ وتصلي ركعتين، ثم تدعو بالدعاء المعروف في حديث جابر، وبعدها سوف يسهل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أمرك.