وقد ذكر الله جل وعلا ملاذ الدنيا، فإن ملاذ الدنيا وشهواتها لا تخرج عن ثمانية أصناف ذكرها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة التوبة: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24] من قدم شيئاً من هذه الثمان على حب الله، فلينتظر الموت ولينتظر اللعنة والغضب، ومن قدم هذه الأمور على الجهاد في سبيل الله وعلى طاعة الله فمعناه: أنه صرف الحب لغير الله، واستحق اللعنة والغضب من الله تبارك وتعالى، فهذه ملاذ الدنيا فمن قدمها على حب الله؛ فقد باء بغضب الله، يوم تأتي مصارعة حب الأب مع حب الله تبارك وتعالى، الأب يدعوك إلى المعصية، والله يدعوك إلى المغفرة وإلى جنة عرضها السماوات والأرض, وتعصي أباك حينها تكون محباً لله.
ومن أجلّ الصور قصة أبي عبيدة ولو أن في إسنادها نظر، لكن هي من قصص السير ولا بأس بإيرادها.
وقف أبو عبيدة عامر بن الجراح -أحد العشرة المشهود لهم بالجنة- يوم بدر فعرض له أبوه مراراً فجنح عنه بالسيف، فلما رآه معترضاً له وعلم أنه يدعوه إلى النار وعلم أنه يحارب الله؛ ضربه بالسيف فكان كأمس الدابر فقتله، فما كان من الله إلا أن جازاه في الحب حباً، وبالصدق صدقاً، وبالإقدام ثواباً وأجراً.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:188] فهذا حب الجاه والشهرة, من أحب ذلك وقدمه على حب الله، فلا تحسبنه بمفازة من العذاب أبداً وله عذاب أليم.
يذهل الإنسان يوم يجد أهل الكفر والضلالة يستميتون من أجل مبادئهم ويحبون أصنامهم وطواغيتهم أكثر من حب أهل الإسلام لربهم تبارك وتعالى, يسهرون الليالي في إنتاج الخطط في محاربة الإسلام, يقدسون عظماءهم, ويقبلون صور عظمائهم، ثم نعجب حين نجد الإنسان لا يشعر بحرارة النخوة وعقيدته مع الله تبارك وتعالى.
يقول شاعر الضلالة والإلحاد الخوري:
هبوا لي ديناً يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم
بلادك قدمها على كل ملة ومن أجلها أفطر ومن أجلها صم
يعني: يتخذ من دون الله أولياء ثم يموت في هذا الولاء ويحيا فيه؛ فما جعل الشيوعي، واليهودي والنصراني يستميت ويقاتل ويذبح إلا من أجل عقيدته، ولذلك يقول: هبوا لي ديناً: لا يهمني أي دين إلا دين يجمع العرب، فلا حيّ الله ذاك الوجه ولا بياه وعليه لعنة الله.
هبوا لي ديناً يجعل العرب ملة وسيروا بجثماني على دين برهم
برهم: المجرم الهندوكي السفاك.
فيقول هذا: فأتوني بدين ولو كان على دينه، ثم يقول: لاتنظر إلى الأديان، بل بلادك الطين والتراب، فهذه عقيدته وهذا حبه وهو يلقى الله عز وجل:
بلادك قدمها على كل ملة ومن أجلها أفطر ومن أجلها صم
أحد الناس الذين صرفوا حبهم لغير الله من الفسقة - ابن هانئ الشاعر- يقف أمام سلطان لا يملك ضراً ولا نفعاً، ولا حياة ولا نشوراً، ولا حكمة ولا تصريفاً ويقول لهذا الحشرة:
ما شئتَ لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
سبحان الله! من هو الواحد القهار إلا الله, من هو الذي يحيي ويميت إلا الله، من الذي يغني ويفقر إلا الله!
قل للطبيب تخطفته يد الردى من ياطبيب بطبه أرداكا
قل للمريض نجا وعوفي بعد ما عجزت فنون الطب من عافاكا
والنحل قل للنحل يا طير البوادي من ذا الذي بالشهد قد حلاكا
وإذا ترى الثعبان ينفث سُمَّهُ فاسأله من ذا بالسموم حشاكا
واسأله: كيف تعيشُ يا ثعبانُ أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا
ستجيب بلسان حالها: الله.
فهذا صرف معتقده ونسي نفسه وخلع حبه يوم دخل على هذا السلطان:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
فما كان جزاؤه؟
والله قد يعجل بالجزاء ليجعل بعض الناس عبرة للمعتبرين، فهذا الشاعر أتاه مرض عضال فأخذ ينبح كما ينبح الكلب على فراشه، وتذكر تلك الكلمة الخاسئة الحقيرة التي صرف الحب فيها لغير الله فقال:
أبعين مفتقر إليك نظرتني فأهنتني وقذفتني من حالق
لست الملوم أنا الملوم لأنني علقت آمالي بغير الخالق
فخر على وجهه فوقع على أرض سحيقة لأنه أشرك بالله.
وهذا المتنبي الشاعر يقول لـ عضد الدولة:
أروح وقد ختمت على فؤادي بحبك أن يحل به سواكا
فضيعه الله في الدنيا والآخرة، فلا حصل على حب الناس في الدنيا أو على مكانة فيها وضيعه في الآخرة كذلك، والأمر عند الله؛ لأن أعماله شهدت له بمقال أنه صرف حبه لغير الله تبارك وتعالى.
وبعض الناس يجعل الرياضة إلهاً من دون الله فيحبها حباً شديداً، يسبح بحمدها, فيصبح عليها ويمسي عليها، ويوالي على فريقه ويعادي عليه, وهل العبادة إلا الحب والبغض؟!
وهل العبادة إلا الولاء والبراء؟!
وهل العبادة إلا الميول؟!
ولذلك يغضب حين يجد إنساناً يناوئه على فريقه أو على نصر منتخبه، فهل هذه أمة تريد بحبها وجه الله؟!
وهل هذه أمة رسالة؟!
قد رأينا جميعاً بعض الناس يوالون على مغنيين، ومغنيات, وما جنين وماجنات, أحياء وأموات، فيتعصب لهؤلاء وهم أرخص الناس ثمناً وأقلهم سعراً في الأسواق، وهؤلاء لا عقل ولا دين كمثل أحد الصوفية كان يقرأ قوله تعالى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:26]: (فخر عليهم السقف من تحتهم) لأن الأصل أن السقف من فوق، لكن لا عقل ولا دين:
ولو أني بليت بهاشمي خئولته بنو عبد المدان
لهان عليّ ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني