حكم القيام للداخل

قال كعب بن مالك: {فلما دخلت قام لي طلحة بن عبيد الله -وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة- قال: والله ما قام لي من قريش ولا من المهاجرين غير طلحة} قام طلحة رضي الله عنه وأرضاه تكريماً لـ كعب بن مالك، واقترب منه وسلم عليه وصافحه، والقيام -للفائدة لما وصلنا هذه المسألة- للقادم على ثلاثة أضرب: قيام له، وقيام عليه، وقيام إليه.

أما القيام عليه فهو محرم، كأن يجلس الجالس، ويقوم على رأسه أناس من باب التعظيم والتفخيم، فهذا محرم؛ لأنه فعل الأعاجم في ملوكهم، وفي الصحيحين من حديث أنس أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا، وذلك عندما صلى جالساً صلى الله عليه وسلم ورأى أصحابه وقوفاً خلفه فأمرهم بالجلوس، وقال لهم بعد السلام: {كدتم أن تفعلوا كما تفعل الأعاجم بملوكها} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار} كأن يجلس الجالس في المجلس، ويدور الحديث ويقوم عليه بجنبتيه أو أمامه وخلفه رجال، هذا منهيٌ عنه في الإسلام، وهو الذي يسمى القيام عليه.

أما القيام له: فإن كان للتعظيم وللتفخيم فهذا يلحق بالتحريم، وإن كان للتقدير ولإعطاء المسلم حقه فلا بأس بذلك، فإن من الحق أن تقوم للمسلم من باب التواضع ومن باب إعطائه حقه، لا كبراً ولا تعظيماً له ولا تفخيماً، جاء زيد بن حارثة فقام له صلى الله عليه وسلم وقبله، وصح أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت إذا دخلت على أبيها قام لها واحتضنها وقبلها وأجلسها مكانها، وكان إذا زارها في بيتها قامت إليه عند الباب واحتضنته وقبلته وأجلسته مكانها صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنها وأرضاها، وجمعنا بهم في الجنة.

وفي حديثٍ -في سنده كلام- أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه لما قدم من الحبشة قام له عليه الصلاة والسلام من بين الصحابة وقال: {لا أدري بأيهما أُسَر بقدوم جعفر أو بفتح خيبر وقَبَّل جعفر وأجلسه} أحد النبلاء من الأدباء رأى عالماً أقبل فقام الأديب، فقال العالم: لا تقم، فقال هذا الشاعر:

قيامي والإله إليك حقٌ وترك الحق ما لا يستقيم

وهل رجلٌ له لبٌ وعقلٌ يراك تجي إليه ولا يقوم

وأما القيام إليه، فهو جائز بالإجماع، مثل أن تقوم إليه لتنزله أو لتعينه على شيء أو تفتح له الباب، أتى سعد بن معاذ سيد الأوس الذي اهتز له عرش الرحمن لما مات، وشيعه سبعون ألف ملك، قدم على حمار ليحكم بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين بني قريظة، وكان مريضاً مجروحاً من القتال، فلما أتى قال صلى الله عليه وسلم للأنصار: {قوموا إلى سيدكم، وفي رواية: فأنزلوه} فالقيام إليه جائز كما أسلفت.

قال كعب بن مالك: {فقام لي طلحة بن عبيد الله، ووالله ما أنساها لـ طلحة} الإحسان ينفع حتى إلى الكلاب، يقول:

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبَهم فطالَما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ

كان المغيرة بن شعبة أحد الأمراء في قصره، فقال لحاجبه: لا تُدْخِل عليَّ أحداً، فأتى رجل صديق للحارس، قال: أريد الأمير المغيرة بن شعبة، قال: كيف؟ قال: أنا صديقك تمنعني قال: ادخل، فدخل قال المغيرة: أما قلت لك لا تدخل أحداً اليوم؟ قال: إنه صديقي وصاحبي فخجلت أن أمنعه، قال: [[أحسنت أصاب الله بك الخير، والله إن المعروف ينفع ولو في الكلب الأسود]]

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبَهم فطالَما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ

يقول رجل أعرابي لـ ابن عباس: يـ ابن عباس! إن لي عندك يداً -أي: إني فعلت معك معروفاً، وقدمت لك مكرمة- قال ابن عباس: ما هي؟ قال: رأيتك في الحج في العام الأول، وأنت في الشمس فظللتك بكسائي فهذا الأعرابي رأى ابن عباس -عالم المسلمين ترجمان القرآن بحر الأمة وبحر القرآن- رآه في الشمس وهو حاج يفتي الناس وسط الحجيج كالغمام حوله يفتيهم، فأتى هذا البدوي بكسائه، فظلل ابن عباس، وابن عباس ما درى من ظلله، وبعد سنتين أتى الأعرابي يحاسب ابن عباس ويريد منه الأجرة، قال: إن لي عندك يداً، قال: ما هي؟ قال: رأيتك في العام الأول في الحج وأنت تفتي الناس، فأصابتك الشمس، فظللتك منها، قال ابن عباس: يا غلام! أعطه ألف دينار.

الخير أبقى وإن طال الزمان به والشر أخبث ما استوعيت من زاد

كان أبو جعفر المنصور الخليفة الجبار ثاني خلفاء بني العباس جالساً مع الأدباء والوزراء والأمراء، قال: ما أحسن الأبيات التي قالت العرب؟! فكلٌ أدلى ببيت، فقال: أحسن بيتٍ قالته العرب هو:

الخير أبقى وإن طال الزمان به والشر أخبث ما استوعيت من زاد

افعل الخير في أي رجل، يقول الحطيئة:

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس

اشترى عمر رضي الله عنه وأرضاه من الحطيئة أعراض المسلمين بألف دينار، وكان شاعراً هجاءً.

مر الحطيئة برجل اسمه الزبرقان بن بدر على ماء، فأراد أن يضيفه الزبرقان بن بدر، وكان الزبرقان أميراً؛ لكنه كان بخيلاً، يمص الذباب وهو في الهواء، والحطيئة يخرج لسانه ويضرب أرنبة أنفه، وهذا لا يستطيعه كل الناس، ومن أراد أن يجرب فإذا عاد إلى بيته فليجرب، فـ الحطيئة لطول لسانه كان يضرب أرنبة أنفه بها، وقالوا عن حسان بن ثابت أيضاً أنه كان يضرب بلسانه أرنبة أنفه، يقول عليه الصلاة والسلام: {من يهجو المشركين؟ قال علي: أنا، قال: لا -لأن علياً لم يكن شاعراً بدرجة حسان -قال حسان: أنا يا رسول الله، قال: كيف؟ قال: عندي -يا رسول الله- لسانٌ لو وضعتها على حجرٍ لفلقه، ولو وضعتها على شعرٍ لحلقه، ثم أخرج لسانه وضرب أرنبة أنفه}.

فـ الحطيئة مر بهذا الأمير، فطلب منه العشاء فما عشاه، فأتى بقصيدة مخزية مزرية، يقول في الأمير:

دع المكارم لا ترحل لبُغيَتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

يقول: أنت خادم ولا تصلح أن تكون أميراً، لأن الأمير واجبه أن يضيف وأن يعطي وأن يبذل وأن يكون وجهه طلقاً سمحاً بشوشاً يعانق ويرحب.

دع المكارم لا ترحل لبُغيَتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس

أجمعت يأساً مبيناً من نوالكم ولا يرى طارداً للحر كالآسي

أتى هذا الأمير وسمع القصيدة التي سارت في العرب -والعرب تتنقل فيهم القصائد كالهواء أو كالماء- فضاقت عليه الدنيا بما رحبت، فركب ناقته وذهب إلى عمر وخلع رداءه، وقال: [[لا أتولى ولاية، سبني الحطيئة، قال عمر: ماذا قال فيك؟ قال: يقول:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها فاقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

-وعمر يدري أنها تنزل على الكبد؛ لكن يريد أن يلطف الوضع- قال: لا أظن أنه سبك، يقول: اترك المكارم فإنك مطعم مكسي، وكلنا مطعم من الله ومكسي، قال: يا أمير المؤمنين! استدعِ حساناً -الذي يعرف- واسأله عن هذه القصيدة، فاستدعى حساناً، قال عمر: يا حسان! هل سبَّه؟ فقال حسان: لم يسبه -يا أمير المؤمنين- ولكنه سلح عليه، ليته سبه فحسب، لكنه سلح عليه.

هذه قصة تطول، وإنما الشاهد فيها -بارك الله فيكم- القيام، وتكريم الوافد.

فجلس كعب بن مالك بعد أن قام له طلحة بن عبيد الله، فقال عليه الصلاة والسلام: {أبشر يا كعب بخير يومٍ مر عليك منذ ولدتك أمك} قال كعب: فبكيت من الفرح.

البكاء قسمان: بكاء حزن، وبكاء فرح، دمع الحزن حار، ودمع الفرح بارد، قال ابن القيم: يقول أحد الأولين:

طفح السرور عليَّ حتى إنني من عظم ما قد سرني أبكاني

ومن هذا: المرأة، إذا سمِعَتْ بنجاح ولدها تبكي، لا تبكي لأنه رسب؟ بل تبكي فرحاً بنجاحه، وكذلك إذ رجع ولدها من سفر، فهذا يسمى دمع الفرح، أن يبكي الإنسان فرحاً وهو في غاية الفرح، ويقولون: إن صغار القلوب إذا أتاهم أمرٌ طامٌ ماتوا من كثرة الفرح، يصيب أحدهم سكتة فيموت.

ذكر الجاحظ وغيره أن رجلاً من البخلاء ذهب إلى أحد الملوك، وكان هذا البخيل فقيراً وكان يظن أن الملك يعطيه عشرة دنانير أو مائة دينار أو ثوباً، أو أي شيء، فذهب فسأل الملك عطاء، فقال الملك: اصرفوا له عشرة آلاف دينار، هذه عشرة آلاف دينار ميزانية، فأتوا فأخبروا الرجل، قالوا: فجلس مرتعداً عند باب الملك وما مر عليه قليل حتى مات.

لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار

وهذا يقوله ابن القيم في كتابه الطب، على الإنسان أن يتدرج مع حبيبه خاصةً مع الأطفال في الفرح، فلا يعطيهم الفرح دفعة واحدة، يقول: كيف لو حصل كذا أو حصل كذا؟

وهذا نادر لا يحدث إلا لأهل الجشع، والطمع الذين يصابون بسكتات؛ لقلة الإيمان في قلوبهم، أما أهل الإيمان فسواء زادت الدنيا أو نقصت فأمرها سهل، بعضهم لا يتزعزع من المصائب ولو كانت كالجبال.

قيل للأحنف بن قيس: [[ممن تعلمت الحلم؟ قال: تعلمت الحلم من قيس بن عاصم]] قيس بن عاصم هذا هو شيخ قبائل بني تميم، عنده عشرة آلاف رجل، إذا ناداهم حملوا عشرة آلاف سيف، لا يسألونه عما غضب، يقولون: إذا سمعوه ناداهم لمعركة قالوا: غضبت زبرة، وزبرة خادمة لـ قيس بن عاصم، فإذا ناداهم قيس بن عاصم، أخذوا السيوف لا يسألون عما غضب؛ هل هو محق أو مبطل، أو ظالم أو مظلوم!

لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا

ويروى عنه أنه قدم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان عليه جلالة ومهابة وعقل وسكينة، وهذه شارة المؤمن دائماً، فرآه صلى الله عليه وسلم فقال: {ما سمعت برجلٍ إلا كان أقل مما سمعت به إلا أنت يا قيس فكنت أعظم مما سمعت به} وقال: {هذا سيد أهل الوبر -أي: البدو- قال قيس: يا رسول الله! إنه قد رق عظمي، وشاب رأسي، ودنا أجلي فأوصني يا رسول الله، قال عليه الصلاة والسلام: يا قيس! إن مع الصحة سقما، ً وإن مع القوة ضعفاً، وإن مع الغنى فقراً، وإن مع العزة ذلة، يا قيس! إن معك قريناً تدفن معه وهو حي ويدفن معك وأنت ميت، وهو عملك فأقلل منه أو أكثر، فبكى وارتحل إلى قومه}.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015