مراعاة واقع الناس، الضغوط التي تقع عليهم، لماذا عصى صاحب المعصية؟
صاحب المعصية لا نفرح أنه عصى الله، لا يبشر بعضنا بعضاً أنه عثر على رجل يشرب الخمر، الواجب أن نبكي إذا رأينا رجلاً يشرب خمراً، لا ندين الناس بالتهم، لا نذهب ونحرج الناس إلى أن يعترفوا، أنا أرى أن هناك ممارسات خاطئة، مثلاً: نجد رجلاً شرب الخمر وينكر أنه شرب الخمر، ولا نجد للخمر رائحة ولا علامات، فنقول: لا، وتحت السوط، وتحت التقارير، وتحت الشهود حتى يعترف، هذا ليس منهجه عليه الصلاة والسلام.
أيضاً لا نتهم الناس في نياتهم، ولا في مزاولاتهم لأعمالهم التي ظاهرها الخير.
وأيضاً لا نتجسس لنكشف أناساً تستروا بالمعاصي وما جاهروا بها، ثم لا نفرح بالمجتمع أنَّا أدنَّاه بالخطأ.
في الصحيحين أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- أتي بشارب خمر شرب الخمر كثيراً، وفي بعض الروايات في غير الصحيح أنه شرب إلى خمسين مرة.
تصوروا أيها الإخوة! لو أتي لنا برجل الآن شرب الخمر خمسين مرة، بعض الناس لا يسلم عليه ولا ينظر لوجهه أصلاً، فقال أحد الصحابة: {أخزاه الله ما أكثر ما يؤتى به في الخمر! فغضب عليه الصلاة والسلام وقال: لا تكن عوناً للشيطان على أخيك، فوالذي نفسي بيده ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله} فأثبت له أصل الحب، وبين أن فيه خيراً وأنه لا زال على الفطرة، ومعنى الكلام: لماذا نخسر هذا الرجل ولو تكرر منه الذنب، علَّ الله أن يصلحه، وكلنا مذنبون وكلنا خطاءون.
سبحان من يعفو ونهفو دائماً ولم يزل مهما هفا العبد عفا
يعطي الذي يخطي ولا يمنعه جلاله عن العطا لذي الخطا
أيضاً في الصحيحين: أن ماعزاً الأسلمي زنى، فجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم تصوروا تلكم الشفافية في التقوى الذي بلغها مجتمع الرسول عليه الصلاة والسلام حتى يقول ابن الوزير في العواصم والقواصم: والله الذي لا إله إلا هو لعصاة أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام خير من طائعي زماننا، لم يكن عند الرسول صلى الله عليه وسلم أجهزة تجسس ولا مباحث ولا استخبارات ولا هيئات، ولم يرسل للناس أناساً يكبسون عليهم بيوتهم، لكنها التقوى، فلما زنى تذكر الله والقدوم على الله والجنة والنار.
أتى ماعز بنفسه ووصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ودخل عليه وقال: زنيت يا رسول الله! فهل استبشر صلى الله عليه وسلم! لو قيل لبعض الناس: اعترف فلان بالزنا لقال: خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسكلوه أثبتوا عليه، اكتبوا محضراً، خذوا بصماته؛ لأننا نخاف أن ينكر غداً، ليس هذا منهجه عليه الصلاة والسلام ماذا فعل؟ -حول وجهه من الجهة اليمنى إلى اليسرى- غضب، لا يريد صلى الله عليه وسلم أن يفتضح الناس.
يقول كما روى الحاكم عن ابن عباس: {يا أيها الناس من ابتلي بشيء من هذه القاذورات، فليستتر بستر الله، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه الحد} هذا قوله عليه الصلاة والسلام وهذا الحديث في بلوغ المرام لـ ابن حجر.
{فحول وجهه- صلى الله عليه وسلم- فاعترف ماعز حتى تكلم أربع مرات، وذهب به ورجم وفر قبل الرجم، فمسكه الصحابة ورجموه، قال صلى الله عليه وسلم: ألا تركتموه} لماذا ما تركتموه يذهب؟ لعله ما زنى من يدري؟!
وعند البيهقي فيما يروى عنه صلى الله عليه وسلم وبعض أهل العلم يصحح هذا الحديث لكنه يقبل التحسين ويرويه مثل ابن عدي: {ادرءوا الحدود بالشبهات} وزاد البيهقي {فإن الإمام أن يخطئ في العفو أحسن من أن يخطئ في العقوبة}.
زنت امرأة ولا يعلم بزناها إلا الله، ولم يأت الرسول صلى الله عليه وسلم خبر من المجتمع، أو إخبارية، أو قرار أنها زنت، ولم يصله ملف اعتراف، ولكنها لما زنت تحرك الإيمان الذي في قلبها، الإيمان الذي في عصاة الصحابة أكبر من الإيمان الذي في قلوب الطائعين في هذا العصر، فذهبت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام واعترفت، قال: {عودي حتى تضعي} لأنها حبلى من الزنا، فعادت ولم يكتب عليها بياناً ولم يثبت عليها ولم يأخذ منها تقريراً وردها إلى أهلها.
أسألكم بالله لو أنكرت هي ووقفت في بيتها هل سيرسل لها الرسول صلى الله عليه وسلم من يأخذها؟ لا والله، وأتت بعد أن وضعت بطفلها -قال الراوي: وكان في لفائف- في أول يوم لكن الإيمان ارتفع في قلبها كالجبال، وقدمته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالت: (طهرني يا رسول الله!) -فاعتبرت الحد تطهيراً- قال الرسول صلى الله عليه وسلم: عودي حتى ترضعيه، فإذا فطمتيه فتعالي -ولم يأخذ عليها شهوداً وكفى بالله شهيداً- فذهبت فأرضعت طفلها، فلما فطمته، أتت به وفي يده كسرة خبز قال صلى الله عليه وسلم: من يكفل هذا وهو رفيقي في الجنة كهاتين؟ فأخذه أحد الأنصار وذهبوا بالمرأة فرجموها، والرسول صلى الله عليه وسلم قيل في بعض الروايات: كان معهم، فقال أحد الصحابة: أخزاها الله لو أنها استترت بستر الله، قال: لا تسبها والذي نفسي بيده إني لأراها تنغمس في أنهار الجنة، وفي الرواية الصحيحة: {والذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو وزعت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم} وفي لفظ: {لو تابها صاحب مكس لغفر له} وفي بعض الروايات: {لو وزعت على أهل المدينة، لكفتهم}.
هذا فضل الله، وهذه رحمته؛ وذاك عطاؤه لهذا العاصي أن يتطهر وأن يعود في الدين، وأن يدخل جنة عرضها السماوات والأرض.
من الذي حجب الجنة عن السارقين والزناة وشربة الخمر بعد أن يتوبوا إلا الخوارج؟ ولذلك فهم مبتدعة عند أهل الإسلام، لكن ما دامت رحمة الله عز وجل وسعت هؤلاء العصاة وعادوا وأنابوا وجادوا بالنفوس، من منا الآن يجود بنفسه كما جادت المرأة الزانية، ثم تابت؟
يجود بالنفس إن ضنَّ البخيل بها والجود بالنفس أغلى غاية الجود