توكل الأنبياء والصالحين على الله

ذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى سير الصالحين وأن كل واحد منهم كان يقول: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88] ويقول هود عليه السلام: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56] فيقول أحد المفسرين: الله على صراط مستقيم، والرسول على الصراط المستقيم، والإسلام صراط مستقيم والصالحون على الصراط المستقيم.

في كفك الشهم من حبل الهدى طرف على الصراط وفي أرواحنا طرف

قيل لـ ابن مسعود: ما هو الصراط المستقيم؟ قال: [[محمد في أوله وتركنا في آخره]] ويقول ابن القيم: "في الدنيا صراط مثل صراط الآخرة من نجا فيه هنا نجا هناك" لأن الصراط هنا هو الطريق المستقيم، وفيه شهوات وشبهات ومعاصٍ, ومنكرات, فكلما نهشتك شبهة؛ نُهِشْتَ بشوك السعدان أو الكلاليب على صراط جهنم، أعاذنا الله وإياكم من السقوط والوقوع من على الصراط، إنه على كل شيء قدير.

يقول شعيب -وهو خطيب الأنبياء- ويقال: ما سُمع بحجة كحجة شعيب عليه السلام وكان خطيب الأنبياء وكان فصيحاً وحججه دامغة أوردها الله في سورة هود إيراداً عجيباً، يقول شعيب: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88] يقول المفسرون: توكلت في أول الطريق وأنيب في آخر الطريق، ويقول الله لرسوله عليه الصلاة والسلام: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129] ولا يمكن لأحد أن يصارع الأحداث إلا بالتوكل على الله الواحد الأحد، ويجعل قوته من قوة الله المستمدة لا من قوة البشر، انظر إلى الأدعياء الذين يتبعون الكيانات دائماً ويفتخرون بها، تجد الواحد منهم عنده نشوة أنه يتبع فلاناً, وأنه من خدم فلان, ولكن أنت مع الله وفي حزب الله عز وجل قال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:173] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51 - 52].

قال ابن عباس: [[كان آخر كلام إبراهيم عليه السلام يوم ألقي في النار حسبنا الله ونعم الوكيل]] وفي الصحيحين أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: {رأيت البارحة في المنام النبي ومعه الرهيط -أي: مجموعة قليلة- والنبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي وليس معه أحد، فإذا سواد عظيم فظننتهم أمتي، فقالوا: هذه أمة موسى عليه السلام, ثم إذا سواد عظيم قد سد الأفق فقلت: من هؤلاء؟ قالوا: أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بلا حساب} ثم قام عليه الصلاة والسلام وترك المجلس، فخاض الناس فيهم، فقال بعض الصحابة: هم الذين ولدوا في الإسلام، وقال بعضهم: هم الذين صحبوا الرسول عليه الصلاة والسلام، وقالوا أشياء أخرى، فخرج عليه الصلاة والسلام وأخبرهم فقال: {هم الذين لا يكتوون، ولا يتطيرون ولا يسترقون، وعلى ربهم يتوكلون} وفي الحديث مسائل ليس الآن مجال بحثها، ومعنى: "لا يتطيرون" أي: لا يعلقون أحداثهم بالطير كمن يتشاءم بالطير ومن يظن أن هناك فألاً حسناً أو فألاً مشئوماً هذا:

لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى ولا زاجرات الطير ما الله صانع

فعلم الغيب عند الله ليس عند الطير، كذلك بعضهم يتفاءل أو يتشاءم بصوت الثعلب، أو بعضهم بصوت الغراب حتى يقول بعضهم:

ناح الغراب فقلت نح أولا تنح فلقد قضيت من الأنام ديوني

ويقول النابغة:

زعم البوارح أن رحلتنا غداً وبذاك خبرنا الغراب الأسود

فالعرب عندها سانح وبارح، فالسانح: إذا طار الغراب في الصباح على الميمنة سافروا، وإذا طار في الميسرة لم يسافروا، كانت أمة جاهلة قال تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء:113] وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] وقال: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2].

يذكرني هذا الحديث بحديث في الصحيحين لطرافته وحسنه, أورده هذه الليلة لأن فيه مسألة خاض الناس أي: اختلف الناس في مراد الرسول عليه الصلاة والسلام.

وهذا الحديث هو في خيبر حيث أرسل عليه الصلاة والسلام من يفتحها فاستعصت عليهم فكان الناس مهمومين مغمومين مكروبين وبعد صلاة العشاء قال عليه الصلاة والسلام: {لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله يفتح الله على يديه} قال عمر: [[ما أحببت الإمرة إلا ليلة إذ]] أي: أحببت أن أكون أنا صاحب الراية؛ لأنه من مواصفاته أنه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله, فليست رتباً عسكرية, ولا شهادات علمية، إنما هي رتبة عالية هي: حب الله والرسول، وبات الناس يدوكون من يعطاها, فصلى عليه الصلاة والسلام صلاة الفجر وسلم، والتفت إلى الناس وقال: {أين علي بن أبي طالب؟} قالوا: يا رسول الله! في خيمته في طرف المعسكر، وهو لم يحضر صلاة الفجر مع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يرى مد يده حيث أصابه رمد في عينيه، فقال عليه الصلاة والسلام: أين هو؟ قالوا: به رمد يا رسول الله لا يرى شيئاً، قال: عليّ به، فذهب الناس يقودونه إلى المعصوم عليه الصلاة والسلام، فلما اقترب منه تفل في عينيه فأصبح كأن لم يكن به رمد قال: {خذ الراية، وادعهم قبل أن تقاتلهم، لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم}.

فأين الإعلام العالمي الذي يقول: إن شباب الصحوة ودعاة الإسلام يريدون قتل البشرية؟ في الجزائر يوم خرج مليون جزائري قبل شهر من المساجد يكبرون ويهللون في شوارع الجزائر وهم يطالبون بحكم الله ويقولون:

نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا

قام عليهم الإعلام العالمي قال: الأصوليون يريدون إزهاق الأرواح, أتباع محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله ليخرج الإنسان من الظلمات إلى النور! بعثه بالسعادة والنور والإيمان قال تعالى: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:1 - 2] أما الصهيونية والعلمنة والزنادقة والحداثيون، والمهرجون، والمغنون، والضائعون فلهم الميدان والإعلام والمكانة, وأما هؤلاء فهم متهمون دائماً, تلاحقهم التهم, سبحانك ربي هذا بهتان عظيم.

وذكر الترمذي في حديث حسنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: {لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصاً وتروح بطاناً} الطائر في الصباح من يتكفل برزقه إلا الله, حتى أن ابن تيمية له كلمة في هذا يقول: "الطيور في أوكارها تشدوا بذكره " إذا سمعت الحمام يغني فاعلم أنه يشدوا بذكر الواحد الأحد، "والدود في الطين تلهج بذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى" والحيتان في البحر, وجميع ما في الأرض يسبح له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6].

وقد سمعت بعض الفضلاء يذكر قصة، يقول: رأيت عصفوراً كان يأتي إلى رأس نخلة, يهاجر من مكان إلى مكان, ومن ثم يعود إلى رأس النخلة، والعصافير عند العرب لا تبيض في النخلات، قال: فتعجبت كيف يأتي العصفور إلى النخلة؟! فصعدت النخلة فوجدت حية عمياء ويأتي هذا العصفور برزق هذه الحية, فإذا اقترب هذا العصفور فتحت الحية فمها فأعطاها اللحمة والخبز، وهذه الحية العمياء في مكانها, رزقها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بهذا الرزق, وهذا عجب من الأعاجيب؛ فإن الله يرزق الحية العمياء وهي في جحرها فكيف لا يرزق الإنسان، حتى يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2].

حتى يقول بعض الفضلاء من الفلاسفة يقول: يخرج الإنسان من بطن أمه أول ما تضعه أمه ويداه مقبوضتان من حبه للدنيا وحرصه عليها, حتى يقول أحدهم:

ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا

فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا

فهو التوكل على الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, وممن توكل على الله أصحاب الرسول عليهم الصلاة والسلام خرجوا في الصحراء مع العلاء بن الحضرمي! فانقطع بهم الماء في صحراء الربع الخالي، بحثوا عن الماء فلم يجدوا شيئاً, حتى ذكر في السير أن بعضهم حفر قبره وجلس عليه! فقام أحدهم وقال: يا علاء بن الحضرمي ادعُ الله أن يغيثنا، فقام العلاء الحضرمي وقال: يا علي يا عظيم! يا حكيم يا عليم! أغثنا؛ فأتت غمامة لتوها فنزل القطر.

أنا أعرض عليكم قصة ربما سمعها الواحد منكم مائة مرة سامحوني في التكرار, لكني أزعم أنني لا أكرر, وأن القصة ولو تكررت فهي في قالب آخر وفي مجال آخر:

قالوا تكرر قلت أحلى علماً من الأرواح أغلى

فإذا ذكرت محمداً قال الملا أهلاً وسهلا

لكن خذوا هذه القصة, وألقوها في دار الإلحاد العالمي والشيوعية العالمية في موسكو , فإذا لم يؤمنوا فاعلموا أنما يتبعون أهواءهم.

في يوم الجمعة يصعد الرسول عليه الصلاة والسلام على المنبر ويقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فيقول الصحابة: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته -في جو المدينة صيف قارص, والشمس لامعة ليس هناك قطعة سحاب- يقول أنس: {والذي لا إله إلا هو، ما في السماء من سحاب ولا قزعة} فيأتي أعرابي ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يتكلم في موضوع آخر, والأعرابي يأتي من طرف المسجد -من باب الندوة فيدخل- فيقول الأعرابي: يا رسول الله! اجاع العيال, وضاع المال فادع الله أن يغيثنا، فتوقف صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا}.

قال أنس: {فسارت سحابة كالترس -الذي يضعه المقاتل على رأسه- فملأت جو المدينة ثم أرعدت, ونزل المطر وصار الماء يتصبب من سقف المسجد على وجه الرسول صلى الله عليه وسلم, وأخذ يتبسم عليه الصلاة والسلام} هذا سيد المتوكلين, محمد صلى الله عليه وسلم، وكان يسجد في المحراب في الطين وبقي المطر أسبوعاً كاملاً ليل نهار لا ينقطع حتى يقولون: سال وادي قناة في المدينة شهراً كاملاً وهو يسيل وبعد أسبوع في الجمعة دخل الأعرابي أو غيره, والرسول صلى الله عليه وسلم في الخطبة والمطر متواصل مدة أسبوع إلى الجمعة الثانية وهو مستمر فقال: يا رسول الله! جاع العيال، -أي: ما خرج بسبب المطر- وضاع المال، وانقطعت السبل، فادع الله أن يرفع عنا هذا المطر، انظر ما أسرع العبد، لا يستقر على حال البأس ولا على حال النعمة، متبجح هذا الإنسان يقول تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً} [الاسراء:83].

الإنسان إذا ألقي في السفينة, وأخذت تموج به في الهواء تجد الدعاء والتذلل والتضرع لله, فإذا خرج بطر, وأخر الصلاة, وعصى وتمرد على الله، قال: ادع الله أن يرفع عنا الغيث، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: {اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر، قال أنس: فوالله ما يشير إلى جهة إلا انصب الغيث جهتها، قال: فخرجنا من المسجد في مثل الجوبة} أصبحت المدينة في مثل الجوبة، أصبحت الشمس فقط ترسل أشعتها إلى المدينة وأما حولها فغيث،: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15].

هذه واحدة من ألف معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم، وهي تنبيء عن توكله على الله عليه الصلاة والسلام.

وأتى البراء بن عازب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله! علمني دعاء أدعو به إذا أردت أن آخذ مضجعي -وفي بعض الألفاظ أنه هو الذي علمه- فقال عليه الصلاة والسلام: {إذا أويت إلى مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة وقل: اللهم إني أسلمت نفسي إليك وألجأت ظهري إليك، وفوضت أمري إليك، رغبة ورهبة إليك لا منجا ولا ملتجأ منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، ثم نم فإنك إن مت من ليلتك مت على الفطرة} وهذه وصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمقصود بهذا: حتى في النوم يجب أن تتوكل على الله عز وجل.

وكان عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح إذا خرج من بيته -في حديث أم سلمة - يقول: {اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل أو أزل أو أُزل أو أظلم أو أُظلم أو أجهل أو يُجهل علي} وهذا دعاء مطلوب من المسلمين أن يقوله المسلم كلما خرج من بيته, وفي رواية صحيحة من حديث الترمذي وأبي داود كان يقول عليه الصلاة والسلام: {باسم الله، توكلت على الله، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أُزل، أو أظلم أو أُظلم، أو أجهل أو يُجهل علي} ويقول عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم وفي مسند أحمد: {يدخل الجنة أقوام أفئدتهم كأفئدة الطير} قال النووي: قيل هم المتوكلون على الله، وقال بعضهم: وهم في توكلهم على الله مثل الطير التي هي أعظم المخلوقات توكلاً على الله, تجده يخرج في الصحراء لا يدري هل يلقى حباً أو لا, فيلقى حباً ويملأ الله بطنه طعاماً بدون حيلة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015