المسألة السابعة: التدريب على القتال قبل نزوله ومنها المسابقة بين الخيل:
يقول عز من قائل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60] فكان صلى الله عليه وسلم يقر التهيؤ للمعركة والاستعداد، ومن هؤلاء أخذ أهل العلم أن على الناس أن يتثاقفوا بالسلاح، ويريشوا سهامهم، ويجردوا سيوفهم، وأن يتدربوا على المنازلة قبل المعركة.
لما التقى سعد رضي الله عنه وأرضاه في القادسية بـ رستم قائد فارس قبل بداية المعركة بليلة، أرسل رستم الفارسي جاسوساً له، وقال: اذهب فادخل في جيش المسلمين وانظر ماذا يفعلون في ليلهم؟ وعد وادخل في جيشنا وانظر ماذا يفعلون في ليلهم؟
فذهب هذا الجاسوس إلى جيش المسلمين، فدخل في أوساطهم، فرأى فرقة تتدارس القرآن في الليل، ورأى كتيبة تتلو القرآن وتذكر الله عز وجل، ورأى آخرين يدعون الله ويناجونه ويبكون ويسألون الله النصر، ورأى آخرين يصلون، ورأى آخرين يتدربون يريشون السهام ويجردون السيوف ويتثاقفون بالرماح، فخرج من جيش المسلمين ودخل في جيش فارس فرأى أناساً قد سكروا وفقدوا وعيهم من الخمر، وأناس يعاقرون، وأناس على الفاحشة، فعاد فأخبر رستم فعض على أنامله وقال: هزمنا من الآن.
وهزموا بأمر الله {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45].
فالمثاقفة والتدريب وارد عند المسلمين، ولذلك يقول ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين: {سابق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الخيل التي ضمرت والخيل التي لم تضمر} -الفرس يضمر عند العرب أي: يجوع حتى يصبح خصره كالقوس، أي: يترك من الأكل أربعين يوماً، ويسقى ماءً ويعطى بعض الأمور الخفيفة حتى يبقى خفيفاً يصبح خصره كالقوس؛ فيصبح سريعاً كمر الريح، فضمر صلى الله عليه وسلم بعض الخيل وبعضها لم يضمرها، ثم أتى في استعراض حافل يستعد للمعارك عليه الصلاة والسلام فطلب من شباب الصحابة أن يتسابقوا ويرى صلى الله عليه وسلم- فذهبوا إلى الثنية وبدأت الخيل التي ضمرت تتسابق والرسول صلى الله عليه وسلم مع الصحابة عند مسجده في المدينة، وبدأ السباق من ثنية الوداع، فكان ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه في الخيل التي ضمرت فأتى فرسه يقذف به قذفاً قال: فلما وصلت إلى المسجد كان الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصحابة ينتظرون السابقة منا، حاولت أن أحبس فرسي عند المسجد وكان للمسجد جدار فما استطعت من سرعة الفرس فاقتحم بي ودخل بي المسجد! والرسول صلى الله عليه وسلم ينظر، حاول أن يحبسه بلجامه وأن يحد من سرعته لكنه لم يأخذ حذره من ذاك الموقف فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يتبسم هو والصحابة، فلما قرب الفرس؛ ما استطاع أن يرده الجدار، فقفز به من على الجدار، حتى دخل به داخل المسجد، فكان ابن عمر فيمن سابق.
وتسابق الناس على الأقدام كما في صحيح البخاري عن سلمة بن الأكوع قال: نادى مناد: من يسابق؟ من يسابق؟ أعرابي عنده جمل فقال سلمة: أنا أسابقك.
فكان سلمة رضي الله عنه وأرضاه يسابق على الأرض وذاك على الجمل، فسبق بإذن الله، وسلمة أسبق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول أهل السير: كان يصيد الغزلان من سبقه، وكان يطارد الأرنب حتى يمسكها برجلها!
وثبت في صحيح البخاري في حديث الغابة أنه لما أتى السبعة العرنيين أكرمهم صلى الله عليه وسلم وأنزلهم في المدينة ورأى بطونهم قد ذربت من الوباء والسقم، فأمرهم أن يذهبوا إلى الغابة فيشربوا من أبوال إبل الصدقة ومن ألبانها علهم يصحون.
وهذا علاج للسقيم أن يشرب من بول الناقة ومن لبنها، وهذا يعرفه العرب، فلما ذهبوا ومَنَّ الله عليهم بالشفاء -انظر إلى جزاء المعروف- قاموا إلى الراعي مولى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقتلوه وجدعوا أنفه وقطعوا أذنيه وكفروا بالله وارتدوا عن الإسلام وساقوا الإبل معهم! وكلها مخازٍ وفضائح بعضها على بعض {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:40].
فأتى خادم من موالي الرسول صلى الله عليه وسلم ففر منهم وأتى وأخبرهم في المدينة فسمعه سلمة وهو في الطريق فقال: ماذا حدث؟ فأخبره الخبر، فقام سلمة على جبل أحد قال: فصوت حتى أسمعت ما بين لابتيها قبل صلاة الفجر، ثم أخذ وراء هؤلاء يريد أن يلاحقهم قبل أن يصبحوا في قومهم في غطفان، وإذا دخلوا في غطفان منعتهم غطفان، قال: فلحقتهم بعد طلوع الشمس بعد أن ارتفع النهار، قال: فكنت أرميهم بالحجارة وأعطلهم فيعودون إلي فأفر إلى الجبل، فإذا رجعوا؛ شددت وراءهم، قال: فأثخنتهم بالجراح، حتى أخذوا ينزلون بردهم من عليهم ويقولون: ماذا لقينا منك هذا اليوم؟ قال: فحاججتهم وعلمت أن الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يرسل سرية ورائي وظللت أريد أن أمهلهم وأثبطهم حتى تأتي السرية، فلما أتوا يريدون الماء وقت الظهيرة وقد عطلهم أن يصلوا ديارهم، قال: وإذا بالغبار ينقاد من وراء الجبل؛ فعلمت أنها سرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظرت وإذا به كرز بن عبد الرحمن أحد الأبطال والشباب من شباب محمد صلى الله عليه وسلم يقود كتيبةً قوامها ثلاثمائة مقاتل، فطوقت المكان واستسلم هؤلاء الخونة، وأتى صلى الله عليه وسلم فلقيه سلمة فقال: يا رسول الله! أعطني هذا الجيش أصبح به غطفان؛ فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: ملكت فاسجح.
أي: أنك توليت فاعفوا واصفح، انتهى الأمر، فأخذ صلى الله عليه وسلم هؤلاء السبعة فألقاهم في الحرة فقطعهم من خلاف {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:33] وسمل أعينهم صلى الله عليه وسلم بالمسامير الحارة، وتركهم يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا عطشاً.
إذا الشاهد من هذا أن التدريب على القتال قبل نزوله ومنها المسابقة بين الخيل، والمصارعة، وأن هذا من أسباب القوة ومن إظهار الاستعداد لقتال الكفار، والرسول صلى الله عليه وسلم -كما تعرفون في السيرة- صارع ركانة، ولو أن بعض أهل الحديث له كلام في هذا لكن هكذا ورد في السيرة أنه صلى الله عليه وسلم صارع ركانة وقد كان من أقوى الناس وأشد العرب، فأتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يسلم، فطلب معجزة؛ فأعطاه صلى الله عليه وسلم المصارعة، فصارعه أول مرة فصرعه صلى الله عليه وسلم، ومرة ثانية فصرعه، وثالثة فأسلم ودخل في دين الله.
وصح أنه صلى الله عليه وسلم تسابق هو وزوجه عائشة رضي الله عنها وأرضها، وهذا من كمال خلقه ومن حسن عشرته صلى الله عليه وسلم، فإن الذي نشعر فيه بالتقصير في الغالب سوء العشرة مع النساء، فإن بعض الناس يكون ضحاكاً بساماً مزاحاً مع الناس، فإذا دخل بيته؛ كشر وتزمت وغضب، وفي كتاب الأدب المفرد للبخاري قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: [[الدعابة مع الأهل، والوقار مع الناس]] وقال بعض السلف: كن كالطفل إذا دخلت على أهلك.
وقالت عائشة رضي الله عنها: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل علينا دخل علينا ضحاكاً بساماً مزاحاً صلى الله عليه وسلم}.