هناك فرق بين الغناء وبين النشيد، والنشيد الإسلامي مباح إذا خلا من ثلاثة أمور:
الأمر الأول: ألا يصاحبه دف ولا طبل ولا مزمار ولا ناي ولا وتر ولا أي آلة من آلات المعازف، فإن صاحبه شيء من ذلك فهو حرام؛ لأنه استحلال للآلات بعد تحريمها.
والأمر الثاني: ألا يكون الشعر الذي ينشد به شعر مجون وغزل يحبب الفاحشة والجريمة فإنه حرام.
والأمر الثالث: ألا يُسرف فيه، ولا يكثر ولا تضيع فيه الأوقات؛ لأن بعض الناس لما فتح باب إباحة النشيد؛ أنشد وهو قائم وهو قاعد وفي المخيم وفي خارج المخيم وفي السفر وفي الحضر، وفي الحافلة! حتى لم يترك للقرآن مكانة ولا وقتاً يقرأ فيه، فالنشيد إنما يؤخذ منه بقدر الحاجة، يجعل في فترة ترويح؛ لأنه ليس بعلم ولا فقه ولا مسائل حلال ولا حرام، وإنما هو ترويح يؤخذ بقدر الحاجة.
والصحيح أن الصحابة أنشدوا، وقد استمع صلى الله عليه وسلم للنشيد، لكنه صوت بلا مزمار، ولذلك كان له صلى الله عليه وسلم مولى اسمه أنجشة، والموالي في الغالب أصواتهم حسنة، والسبب في الحداء هذا أن العرب تحدو للبعير إذا أرادوا أن يسافروا مع الجمال حدوا لها، أي: أنشدوا للجمال فتهز رءوسها وتقطع المسافات ولو كانت هلكى من الجوع.
قال ابن قتيبة في عيون الأخبار يروي عن الأصمعي قال: دخلت خيمة رجل من الأعراب فوجدت عنده جمالاً قد ماتت وهي حول الخيام -على ميمنة الخيمة وعلى ميسرتها- فقلت: ما هذه؟ قال: سلط الله عليَّ هذا العبد، وفعل الله به وصنع، وقد ربطه في طرف الخيمة.
قلت: وماذا فعل؟ قال: أنشد إبلي من البارحة حتى قطعت كبودها تسعى حتى وصلت إلى البيت ثم ماتت!
وهذا صحيح فإن ابن عباس رضي الله عنه قال: [[أول ما عرف الحداء عن العرب أن غلاماً لـ عبد المطلب جد الرسول صلى الله عليه وسلم سافر معه إلى الشام، فضرب عبد المطلب الغلام، فأخذ الغلام يبكي ويترنم في البكاء، فأخذت الإبل تهز رءوسها فعرف أن الإبل تتحرك مع الحداء]] وهذا موجود ومعروف عند العرب، فإن الجمل إذا كلَّ وملَّ أنشدوا له؛ فارتاح وتعجب وانبسط وانشرح صدره، ولذلك يقول عمر كما في مناقبه لـ ابن الجوزي في كتاب المناقب: [[أنشدوا لنا في السفر فإنه زاد المسافر.
قال: فلما أنشد أقبل عليه الصحابة، فتركهم حتى تفرقوا فقرأ في سورة الذاريات فما أقبل عليه أحد قال: عجيب! أنشد النشيد فتقبلون وأقرأ القرآن فلا تقبلون!]] وقد طلب عمر رضي الله عنه النشيد، فإنه ثبت عنه أن دخل عليه متمم بن نويرة أخو مالك فقال: [[يا متمم! ماذا قلت لأخيك؟ يا ليتني كنت شاعراً فأرثي أخي! والله ما هبت ريح الصبا إلا جاءتني ريح أخي من اليمامة]] أخوه هو زيد بن الخطاب، أسلم قبل عمر واستشهد قبل عمر، وخرج لقتال مسيلمة الكذاب الدجال الأثيم فقتل هناك، يوم يبعثه الله من تلك الجبال من اليمامة يشهد أن لا إله إلا الله ويشهد أنه قاتل في سبيل الله، وعاد خالد من اليمامة، واستقبل أبو بكر وعمر الجيش فلما رآهم واستعرضهم، التفت عمر إلى زيد، وكان رجلاً طوالاً عله أن يجده في الصفوف فلم يجده فانصرع يبكي رضي الله عنه وأرضاه.
فيقول لـ متمم: ماذا قلت في أخيك؟ لأن أخاه مالك بن نويرة قتله خالد بن الوليد، فقال فيه من أعجب الأبيات عند العرب، حتى قال الأصمعي: أم المراثي هي قصيدة متمم يقول فيها:
بكت عيني اليمنى فلما زجرتها عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
فليت المنايا كن خلفن مالك افعشنا جميعاً أو ذَهَبْنَ بنا معا
وكنا كندماني جذيمة برهة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
وعشنا بخير في الحياة وقبلنا أصاب المنايا رهط كسرى وتبعا
فلما تفرقنا كأني ومالكاً لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
فبكى عمر وقال: [[يا ليتني كنت شاعراً فأرثي أخي]].
وفي الأدب المفرد للبخاري رحمه الله بسند حسن قال الأسود بن سريع: {ركبت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم على الراحلة فقال: أتحفظ شيئاً من شعر أمية قلت: نعم.
قال: أنشدني.
قال: فأنشدته بيتاً فقال: هيه! فأنشدته الثاني فقال: هيه! حتى أنشدته مائة بيت، ثم قال صلى الله عليه وسلم: آمن لسانه وكفر قلبه}.
وفي بعض الروايات أن عمرو بن الشريد هو الذي أنشد الرسول صلى الله عليه وسلم.
وعند الطبراني في المعجم الكبير عن الأسود بن سريع قال: {وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! إنني مدحت ربي بقصيدة؛ فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: أما إن ربك يحب المدح} إي والله الله عز وجل يحب المدح، صح من حديث ابن مسعود عند مسلم: {ولا أحد أحب إليه المدح من الله ولذلك مدح نفسه} أما قال الله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]؟
أما قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]؟ أما قال بعد أن دمر الأمم الكافرة: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45]؟
فالله يحب المدح، ولذلك من كان ينظم شعراً فليمدح الله عز وجل وليكثر من الثناء عليه.
وفي البداية والنهاية لـ ابن كثير أن الشاعر العباسي أبا نواس لما توفي رئي في المنام، فقالوا: ماذا فعل الله بك؟ قال: كدت أهلك فغفر الله لي.
قالوا: بماذا؟ قال: نظمت قصيدة وصفت فيها النرجسة ومدحت الله في القصيدة فغفر لي.
ذكره ابن كثير في سورة البقرة لمن أراد أن يعود، وذكره في ترجمة أبي نواس في البداية والنهاية، وهي أبيات جميلة في مدح النرجسة يقول في بعضها:
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات بأحداق هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك
غفر الله له بإعلانه الوحدانية في هذه القصيدة.
إذاً: الشاهد الذي حدت عنه واستطردت هو عن أنجشة وكان مولى للرسول صلى الله عليه وسلم، فطلب منه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحدو، فقام يحدو بنشيد من أناشيد العرب؛ فأخذت الإبل تهرول والنساء عليهن، فكدن يسقطن فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: {رويداً يا أنجشة بالقوارير}.
أي: خفف الصوت حتى لا يسقطن النساء وهن في الهودج من على الجمال.
وفي الصحيحين أن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه كان ينشد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المعركة، وينشد يوم المعمعة ويوم السعة، يقول:
والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
ثم كان ينشد الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول:
فثبت الله ما آتاك من حسن تثبيت موسى ونصراً كالذي نصرا
فقال صلى الله عليه وسلم: وإياك فثبت.
ولما أتته المنية نزل من على فرسه واقتحم وأخذ الراية وقال:
أقسمت يا نفس لتنزلنه
لتنزلن أو لتكرهنه
إن أقبل الناس وشدوا الرنة
مالي أراك تكرهين الجنة
هل أنت إلا نطفة في شنة
إلى آخر تلك الأبيات، فالنشيد الخالي من المجون والإسراف وآلات اللهو لا بأس به إذا اقتصد فيه كما مر.
وعند ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد -وهي ليست مراجع أصيلة لكن أوردها كالزهرة تشم ولا تعك- وعند ابن قتيبة في عيون الأخبار أن عمر رضي الله عنه وأرضاه مر بغلامين له يرعيان ناقة (راعيان على ناقة واحدة) فقال عمر: ماذا تفعلان هنا؟ قالا: نرعى هذه الناقة.
قال: أعيدا علي النشيد الذي كنتما تنشدانه آنفاً.
فخجلا وخافا واستحيا.
قال: عزمت عليكما إلا أنشدتما.
فبدأ أحدهما ينشد ثم أنشد الآخر فإذا أصواتهما لا تحسن ولا ترفع ولا تشرح، فقال عمر: [[أنتما كحمار العبادي]].
والعبادي هذا كان له حماران قيل له: أيهما أخس؟ قال: هذا ثم هذا.
ثم قال: أراعيان على ناقة؟!
فالمقصود: أن الصوت الحسن يستأنس به؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {ليس منا من لم يتغن بالقرآن} ومعنى التغني: تحسين الصوت، وما أذن الله لأحد كما أذن لقارئ حسن الصوت أن يتغنى بالقرآن، قال ابن تيمية: معنى أذن: استمع، (وأذنت لربها وحقت) معناها: استمعت.
وتحسين الصوت مطلوب في الصلاة، ولا يقول الإنسان هذا من التكلف بل عليه أن يحسن صوته ما استطاع، فإن أبا موسى -كما في الصحيحين - يقول: {لو أعلم أنك يا رسول الله تستمع لقراءتي لحبرته لك تحبيراً} أي: القرآن.
وأنشد الموالي والجواري عنده:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
إلى آخر القصيدة.
وفي السنن: [[ w=8002498>> أن أنساً رضي الله عنه وأرضاه دخل على أخيه البراء بن مالك، فوجده قد رفع رجلاً على رجل، وينشد ويرفع صوته وعقيرته في البيت، فقال: أتنشد وأنت من علية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: اسكت، والله لقد نشدنا عند رسول الله]].
هذا البراء الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: {رب أشعث أغبر ذي طمرين -ثوبين ممزقين- لو أقسم على الله لأبره} فلما جاءت معركة تستر قالوا: يا براء! أقسم على ربك أن ينصرنا هذا اليوم.
قال: انتظروني قليلاً، فنزل فاغتسل وتحنط وتكفنّ وقال: [[اللهم إني أقسم عليك هذا اليوم أن تنصرنا وأن تجعلني أول قتيل في المعركة]] فكان أول من قتل وكان النصر مع المسلمين.
وفي صحيح البخاري في كتاب الأدب وفي كتاب الطب أن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أتت تزور أباها وبلالاً، وقد أصابتهم حمى المدينة؛ لأنهم عندما وصلوا المدينة أصابتهم حمى، والحمى تحدث عند المرء شبه الوسوسة والهلوسة من كثرة ما تهزه وترجه، فيتكلم بكلام لا يعيه، فدخلت عائشة تزور بلالاً فسلمت عليه وقالت: يا بلال! كيف تجدك؟ فرفع صوته وكان صوته جميلاً وقال:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أرِدن يوماً مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل
وهذه جبال في مكة، يقول: أيا ليتني أصحو من هذا الحمى وأعود إلى مكة، فتركته وأتت إلى أبي بكر وقالت: كيف تجدك يا أبتاه؟ قال:
كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله
رضي الله عنهم وأرضاهم.