الثاني: ذكاؤه المفرط، وذاكرته المتوقدة:
رزقه الله موهبة!، يذكر عنه الذهبي أن عينيه كأنهما لسانان ناطقان، يخاف أن تتكلم.
ويقول فيه أحد الشعراء اليمنيين:
وقاد ذهن إذا سالت قريحته يكاد يخشى عليه من تلهبه
يقول: أي من شدة ذكائه يخشى عليه أن يحترق يوماً من الأيام في ثيابه من كثرة توقده، إذا كانت عيناه تكادان تحدثانك؛ فكيف بقلبه الداخلي؟!
أما توقده وذكاؤه فحدث عنه ولا حرج، وقد ذكر أبو الحسن الندوي نقلاً عن العلماء كـ البرزالي قال: إنه ما سمع شيئاً إلا حفظه، وكان ذكياً كثير المحفوظ.
انظر الرد الوافر (ص66).
يقول ابن تيمية: ما قرأت مجلداً إلا انتقش في ذهني من مرة واحدة، أي: يأخذ الكتاب ويفتحه من دفعة واحدة ينتقش في ذهنه، وقرأ كتاب سيبويه الذي لا يقرؤه إلا العلماء، فأخرج منه ثمانين خطأً!
وكان يحفظ كتاب الله كحفظ الفاتحة ولا يتلعثم في آية، أما الحديث النبوي فجعله في ذاكرته هنا في آخر مخه في خانة الأحاديث، وأصول الفقه جعلها في مخه في قسم أصول الفقه، والتفسير، فكان إذا استدعى المعلومة في مجلس الذكر أو مجلس الدرس، قال لذهنه: أريد الحديث الذي أخرجه أحمد بسند جيد يحضر الآن فلا يعود إلى كتبه إنما يتدفق.
قال ابن القيم: وكان شيخنا إذا صلى الفجر ذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم اعتكف وأخذ الكراريس وجرد القلم، وأخذ يكتب بلا مراجع وبلا كتب، ولا يعود إلى مصادر حتى يأتي الظهر وقد عبأ كراريس لا يفهمها إلا العلماء.
ومن ذاكرته المتوقدة -كما ذكروا عنه- أنه كان يجلس بعد صلاة العصر، فيجتمع في جامع بني أمية -الجامع الأموي في دمشق - العلماء، والفقهاء، وعلماء الأصول، والمحدثون، والفلاسفة، والأصوليون، والمناطقة، والقضاة فيغلق عينيه.
وكان من طريقته إذا تحدث أن يغلق عينيه، إذا بدأ يتحدث أغلق عينيه تماماً ولا يفتحها إلا قبل المغرب، يقولون: فيتكلم ويهدر كالسيل، ولا يستطيع أحد أن يمنعه أبداً أو يسكته، ويستفيد منه كل المجموعات، بعضهم يدرك ما قال، وبعضهم لا يدرك ما قال:
وكلامه السحر الحلال لو أنه لم يجن قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يملل وإن أوجزته ود المحدث أنه لم يوجز
رآه ابن دقيق العيد وقال: "ما أظن أن الله يخلق مثله! " فغضب ابن تيمية وقال:
أنا المكدي وابن المكدي وهكذا كان أبي وجدي
يقول: أنا ضعيف وفقير، وأبي وجدي ضعفاء وفقراء، ويقول: ما عندي شيء، ولا مني شيء، ولا لي شيء.
وقال الذهبي: "لو أقسمت بين الركن والمقام أني ما رأيت مثله ولا رأى مثله لصدقت ولبررت" وصدق فلم ير مثله، وما رأى هو مثل نفسه، وما رأى الناس مثله.
وقال ابن الزملكاني وهو فقيه شافعي من أعدائه: "ما أتى قبل خمسمائة عام مثله" من خمسمائة عام قبل ابن تيمية الذي توفي عام 728هـ لم يأت مثله.
وأنا أقول من جامع أبي بكر الصديق بـ أبها: لم يأت من عهد ابن تيمية إلى الآن مثل ابن تيمية وأتحداكم، الآن أن تخرجوا لي عالماً، أو داعية، أو مثقفاً، أو أديباً، أو مفكراً في الهند أو في الصين أو في تايلاند أو في بولندا أو في الجزيرة أو في الكويت أو في الإمارات أتى مثل ابن تيمية!! لا يوجد أبداً!
وهذه كتب التاريخ بيننا: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111].