{وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35] اسكن: لفظ فيه حبابة, ولم يقل: اجلس أو اقعد، لأن اسكن فيه من اليقين والطمأنينة والفرح والبشر ما الله به عليم: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً} [البقرة:35] والرغد هنا ليس إلا في الجنة وقد يطلق مجازاً في الدنيا يقال: عيش رغيد، لكن -والله- إذا سمعت من يقول: أنا في عيش رغيد مستمر فلا تصدقه، هل سمعتم أن أحداً استمر عشر سنوات في سعادة ما اهتم ما اغتم ما حزن وما قلق؟ لا والله.
هشام بن عبد الملك قال لوزرائه: تعالوا نحصر الأيام التي أتاني فيها السرور منذ توليت الخلافة، فحسبها فوجدها ثلاثة عشر يوماً، تصفَّى من الزلازل والنكود والفتن والمحن، استقر حاله، قال لوزرائه: لا جرم - لا ريب ولا شك - لأخلون غداً في بستاني وعلي الحراسة ولا يأتيني خبر, لأسعد من الصباح إلى المساء، قالوا: فخرج في بستان له في روضة دمشق وقال للحرس: لا تستقبلوا رسولاً موفداً ولا تأذنوا لأحد, ودعوني في هذا البستان يوماً كاملاً.
وهذا هشام كان من الخلفاء الذين ذهبوا إلى الله، فجلس في هذا المكان من الصباح فلما قرب الظهر وإذا هو بسهم فيه دم وقع بجانبه فرفع السهم فوجده طار من اثنين تقاتلا من خارج البستان وأتى إليه السهم، قال: ولا يوم واحد نسلم من المشاكل.
ولذلك لا تصدق، فهذه الدنيا حزن وهم، ولو قال الإنسان: أنا في سعادة، فربما هو مرتاح مع أهله, لكنه يموت ابنه ويمرض، وترسب ابنته وتُصدم سيارته، وتأتيه دواهي، ويأتيه جاره فيضربه بالفأس في رأسه.
يقولون: الثوب الخلق تهب الرياح من هنا فتمزقه، فإذا رقعت من هنا انشق من هنا فهذه الدنيا:
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت بانيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
يقول أبو الفتح البستي أحد العلماء:
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمران
يقول: الله أذن بخرابها وأنت تعمر.
فتجد الآن الشيخ الكبير عمره ثمانون سنة يمشي على العصا يزور قصره الذي يعمره وقد أخذ قرضاً من البنك ويعمر وينظر في القصر ويقول: "اجعل المجلس في هذا المكان، واجعل لنا حوشاً نتفرج فيه، تتفرج وعمرك ثمانون؟! بينك وبين القبر خمسة عشر سنتيمتراً، لكن العقول لا تذهب لذلك, يقول صلى الله عليه وسلم: {يشيب ابن آدم ويشب ومعه خصلتان: طول الأمل وحب الحياة} فترى الكبير متمسكاً بالدراهم أكثر من الشاب، إذا جاء يحاسب في البقالة أو في المطعم يعد الدراهم ثلاث مرات، ويستخير الله ويخاف أن يلصق الريال بالريال والعشرة بالعشرة، أما الشاب فيخرج الفلوس من هنا ومن هنا لكن الإنسان هكذا طبيعته ولا يعرف حقيقة الدنيا إلا من عرف الله ورسوله والدار الآخرة، ولذلك يتعجب كثيرا ويأتون الآن ويكررون على الناس وقالوا: يقول كسرة غرسها لنا آباؤنا فأكلنا وغرسنا لأبنائنا فيأكلون، وهذا ليس في الصحيحين ولا عند البخاري ولا عند مسلم، بل الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل} وكان ابن عمر يقول: [[إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح]].
ويقول أبو الفتح:
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمران
ويا حريصاً على الأموال تجمعها أقصر فإن سرور المال أحزان
والله، سلبوا من قصورهم وأنزلوا في قبورهم، كانت الجيوش أمامهم ميمنة وميسرة.
هارون الرشيد من منا لا يسمع بـ هارون الرشيد ? العجوز في نيسابور تسمع بـ هارون الرشيد أتته سكرات الموت فقال: أخرجوني أرى الجيش فأخرج - جيشه تسعون ألفاً, جيش جاهز للطوارئ- قال: يا من لا يزول ملكه! ارحم من قد زال ملكه.
الوليد بن عبد الملك بنى قصوراً في دمشق لا يعلمها إلا الله, وهو الذي وسع المسجد النبوي، ووسع المسجد الأقصى وأتى بالمشاريع الهائلة، وبنى قصوراً وحدائق، هذا النهر يضرب في هذا النهر، فلما أتته سكرات الموت لبط وجهه في الأرض وضرب وجهه وقال: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة:27 - 28] لكنهم لا يستفيقون إلا عند سكرات الموت.
عبد الملك بن مروان على ما فيه يوم حضرته سكرات الموت وسمع غسالاً بجانب القصر، قال: يا ليتني كنت غسالاً! ياليت أمي لم تلدني! قال سعيد بن المسيب: لما سمع هذه الكلمة: الحمد لله الذي جعلهم يفرون إلينا وقت الموت ولا نفر إليهم, لماذا؟ لأن سعيداً عرف الطريق إلى الله وتهيأ للمنازل.
وهذا ميمون بن مهران - أحد الصالحين- حفر له قبراً في قعر بيته -في حوشه- فإذا أراد أن ينام توضأ ونزل في القبر وقرأ في القرآن، وخرج من القبر وقال: يا ميمون! قد عدت إلى الدنيا فاعمل صالحاً.
{وَكُلا مِنْهَا رَغَداً} [البقرة:35] الرغد: لا يكون إلا في الجنة، رغد لا هم لا حزن ولا تفكر في شيء, لا يبولون ولا يتغوطون رشحهم المسك، قلوبهم على قلب امرئ واحد، خلا من كل حقد وحسد وبغضاء، لا يخافون موتاً ولا جوعاً ولا هرماً، ولا يصيبهم سوء أبداً: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63] {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101] {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103] {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:35] فقربا الشجرة فظلما أنفسهما ونزلا إلى الأرض وتلقى آدم كلمات من الله، ولكن قبلها آية نتلوها ثم نستمع إلى الكلمات.