الصحابة ميزهم عن الناس خوفهم من الله تبارك وتعالى, ولذلك سلف في مناسبة أن عمر لما خرج إلى بيت المقدس تلقته الجيوش الإسلامية, أتى ليفتح بيت المقدس ويأخذ مفاتيحه, فخرج المسلمون في جيوشهم بأبّهة وزينة وجمال وخيول وكتائب وجنود, فلما رآهم عمر رضي الله عنه وأرضاه ترك الطريق إليهم، وانحرف إلى طريق أخرى, فلحقه أبو عبيدة فوجد عمر يبكي, فقال له أبو عبيدة: ما لك يا أمير المؤمنين؟ قال: [[ضيعنا والله، نسينا ما كنا عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم]] ثم قال لـ عمرو بن العاص: ما لك يا عمرو؟ قال: يا أمير المؤمنين! جمعت الجيوش لأرهب بها أعداء الله, فيقول كلمته الخالدة التي يجب أن نحفظها وأن نرددها كثيراً يقول عمر: [[نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله]] ولذلك من اعتز بغير التقوى أذله الله, ومن اعتز بمنصبه ونسي طاعة الله، أذله الله وأخسأه وحقره؛ لأن الله أخذ على نفسه أن من تواضع له رفعه, وأن من تكبر عليه وضعه.
فدخل عمر وخطب الناس في الجابية ثم دخل على أبي عبيدة في الليل, فقدم له أبو عبيدة أقراصاً من شعير, فقال له عمر: أما لك طعام غير هذا؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، العطاء الذي نأخذه منكم ننفقه في سبيل الله, فأخذ عمر يبكي! فلما أتى النوم قدم له شملة فالتحف نصفها عمر وافترش نصفها وأخذ يبكي، ويقول: [[غيرتنا الدنيا إلا أنت يا أبا عبيدة]] عمر -رضي الله عنه وأرضاه- بإمكانه أن يفعل كما يفعل من سبقه من ملوك كسرى وقيصر وأن يستخدم الدنيا, ولكن خاف موعود الله ولقاءه.
مرّ عمر بـ جابر بن عبد الله كما في ترجمته, فوجد عنده لحماً, فقال لـ جابر: [[يا جابر! ما هذا الذي معك؟ قال: يا أمير المؤمنين! لحم اشتهيته فاشتريته, قال: كلما اشتهيت اشتريت؟ والله إني أملك الذهب والفضة وأنفقها في سبل الخير، وإني أعلمكم بلباب البر وبصغار الماعز وبنسل العسل, وكنت أخلط هذا بهذا ثم آكله، ولكن أخشى أن أعرض على الله يوم القيامة فيقال لي: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف:20]]].
من أين تعلم عمر مخافة الله؟
تعلم من كتاب الله عز وجل ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
في صحيح البخاري: {أنه دخل رضي الله عنه وأرضاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مشربة قال: فدخلت فوالله ما رأيت في المشربة ما يلفت النظر إلا شيئاً من شعير في قطف, فدمعت عيناي, فقال صلى الله عليه وسلم: ما لك يا عمر؟ قلت: يا رسول الله! -وكان جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثر فيه الحصير- هذا كسرى وقيصر يتمتعون بما يتمتعون به وأنت رسول الله، والله فضلك على الناس في هذا العيش؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: أفي شك أنت يـ ابن الخطاب؟ أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟} فمن رضي بموعود الله وبحكم الله فليرض بطاعة الله, فوالله لساعة واحدة يجلسها المؤمن في مثل هذا المجلس والمسجد يذكر الله فيها ويتصل به سُبحَانَهُ وَتَعَالى لهي خير ممن ملك ألف سنة وسنة في الدنيا وغير الدنيا؛ لأنها ذاهبة, قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94].
ولذلك ذكروا أن عثمان رضي الله عنه وأرضاه حضر المقبرة ورأى إنساناً يقبر، فبكى حتى غشي عليه وحمل إلى بيته صريعاً, فقالوا: نراك تقرأ القرآن ولا تبكي! وتذكر ببعض الذكريات ولا تبكي، فإذا رأيت القبر انصرعت, قال: سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار}.
ولذلك يقول علي رضي الله عنه وأرضاه: [[ما أحسن ظواهركم! -أي: ما أحسن ظواهر القبور- ولكن ليت شعري ما في بواطنكم]] المصائب الحيات والعقارب داخل القبور, تبدو القبور لنا مزينة مجملة هامدة ساكتة, ولكن ليت أخبارنا مع أخبارهم, يقول علي رضي الله عنه وأرضاه وهو يسلم على المقابر، قال: [[ألا أخبركم عنا لتخبرونا عنكم؟ ثم قال: أما أخبارنا فعدنا من بعد أن دفناكم، فأما البيوت فسكنت, وأما الزوجات فتزوجت، وأما الأموال فقسمت, فما هي أخباركم؟ ثم بكى وقال: سكتوا ولو نطقوا والله لقالوا: تزودوا فإن خير الزاد التقوى]].
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت بانيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الموت نبنيها
فاعمل لدار غدٍ رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك تربتها والزعفران حشيش نابت فيها