ثم تأتي القارعة، والسؤال الضخم الذي يعرفه الناس، وأقرب من يعرفه الطلاب وهم في قاعات الامتحان، فقد عرفوا هذه الإجابة، وإن لم يعرفوها فسوف يعرفونها في حوادث الزمن، وفي وقائع الدهر.
يقول سبحانه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] والمضطر: هو الذي بلغ به الكرب مبلغاً عظيماً، وهو الذي وقع في ورطة لا يكشفها إلا الله، والمضطر هو الذي أحيط به من كل جانب، وهو من تجمعت عليه المصائب من كل حدب، ومن تقطعت حبال البشر عنه ووسائل الدنيا وقوة الأنظمة، والقوى الأرضية، وبقي وحيداً مضطراً فإلى من يلتجئ؟ من يجيب المضطر؟
أتى أعرابي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام اسمه أبو تميمة الهجيمي كما عند أحمد في المسند، فقال: يا رسول الله! إلى ماذا تدعو؟ قال: أدعو إلى الله أتدري من هو الله؟ -العرب الجاهليون الوثنيون يعرفون أن الله هو الذي خلق السماء، وأوجد الأرض فقط- قال: أتدري من هو الله؟، قال: لا، قال: من إذا أصابك ضر فدعوته كشفه، ومن إذا ضل بعيرك في الصحراء- والبعير عند الأعرابي هو كل شيء- فدعوته رده عليك، ومن إذا أصابك سنة قحط مجدب دعوته فأمطر، هو الله، هذه العقيدة البسيطة السهلة يعرضها عليه النبي عليه الصلاة والسلام.
ومما يذكر في هذا الباب: ما نجَّى الله المضطرين كيونس بن متى صاحب الظلمات الثلاث الذي ما وجد ملتجأً من الله إلا إليه، فر من الله إلى الله، كل شيء تفر منه تبتعد عنه إلا الله، فكلما فررت منه اقتربت إليه، قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50] وكل شيء تقرب منه تأمنه إلا الله، فكلما اقتربت منه خفته، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
ووجدها موسى في البحر، يوم اجتمعت عليه القوى الأرضية والطواغيت، فالتجأ إلى الواحد الأحد، فقال: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] فنجا.
ووجدها إبراهيم قبل أن يدرك النار بدقائق، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فنجا.
قال ابن عساكر: خرج رجل من الصالحين التجار في ناحية على بغل، فاعترض له لص فأخرجه إلى الصحراء، وأخرج سكينهُ ليذبحه، فقال للص: أسألك بالله أن تتركني، قال: لا والله، قال: أسألك بالله أن تتركني لأصلي ركعتين لتكون آخر عهدي بالدنيا، قال: قم فصلِّ، فتوضأ الرجل وصلى -وهو مضطر، فمن يدعو؟! أين ملوك الأرض؟ أين القوى؟ أين الأموال؟ أين العشيرة؟ أين الأولاد؟ تبددوا، فقام يصلي- قال: فارتج علي القرآن، فلم أدرك ولا آية إلا قوله سبحانه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62]-فهتف من قلبه والقلب له هتاف خالد، وله مناجاة شائقة، والقلب له حديث سمر يعرفه من يعيش المصائب والكوارث، فيجد أن القلب يقفز قفزات إلى الحي القيوم- قال: يا من يجيب المضطر إذا دعاه! يا من يجيب المضطر إذا دعاه -يا من يجيب المضطر إذا دعاه! قال: فإذا بفارس على فرس نزل من السماء، فأرسل خنجراً فقتل السارق، قلت: من أنت؟ قال: أنا رسول من يجيب المضطر إذا دعاه- قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] وهؤلاء الجنود يتكررون، فقد نزلوا في بدر، وفي أحد، وفي كل معترك بين التوحيد والإلحاد، وهؤلاء الجنود لله الواحد الأحد ينصر بهم أولياءه-
قال: لما دعوت الدعوة الأولى كنت في السماء السابعة، ولما دعوت الثانية كنت في الرابعة، ولما دعوت الثالثة وصلت إلى الأرض لأقتل هذا المجرم.
{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] فلا كاشف للبلوى إلا هو، يمرض المريض، وتجتمع عليه الأطباء والدواء والعلاج فلا يشافى، لأن الله ما كتب الشفاء، فإذا كتبه رفع المرض.
تقدم بختيشوع طبيب الناس والعالم في عهد أبي جعفر المنصور وأبو جعفر في سكرات الموت، قال: أنقذني يا بختيشوع! بعلاج إني أجد الموت، قال: حضر الحق ولا علاج، قيل له: أين دواؤك؟، قال: ينفع أحياناً ولا ينفع أحياناً، قال: ماذا أفعل؟ قال: الطبيب يريد أن يقربك منه، من هو الطبيب؟ الله.
مات المداوي والمداوى والذي صنع الدواء وباعه ومن اشترى
وبختيشوع هذا حضرته سكرات الموت، كان يعالج من القولنج، وهو المرض الخطير، فأصابه الله بمرض القولنج وقد كان تخصصه أن يشفي -بإذن الله- من هذا المرض، فأصابه الله بالمرض نفسه، فجمع العلاج، وقال له الناس: أين علاجك؟ قال: ذهب العلاج ولا علاج.
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداكا؟
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا؟