الأساس الرابع: القرآن مليء بالسنن الكونية، فقعد لك قاعدة وهي تصيب بلا شك، وهي قاعدة ثابتة ثبوت الجبل، بل أثبت من الجبل مثل: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128] فهذه قاعدة، والعاقبة والنصر والفلاح دائماً للمتقين.
قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:21] فهذا يعلم به الناس أنه من ظلم لا يفلح أبداً لا في الدنيا ولا في الآخرة، والتاريخ يصدق هذا بالاستقراء.
منها قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف:52] من خان وظن أنه ينتصر على خصمه وزميله وقرينه فلا يهدي الله كيده ويكون هو المغلوب، فهي قاعدة.
ومنها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81] المفسدون؛ لا يصلح الله عملهم ولو بهرجوا عملهم وغطوا عملهم بشيء من الكلام، لا يصلح الله عملهم أبداً.
ومنها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة:120] من أحسن لا يضيع الله أجره لا في الدنيا ولا في الآخرة.
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس
قيل: إن هذا البيت هو أحكم بيت قالته العرب، وهو للحطيئة، وأستطرد مع الحطيئة.
مر من جبال بني تميم فلما وصل إلى ماء عليه الزبرقان بن بدر الأمير جالس -وهو تميمي- قال: أقرني (ضيفني).
فما أقراه وما ضيفه ولا عشاه -ولسان الشاعر تقطع بشيء من المال حتى لا يتكلم- فأعطاه أخزى قصيدة في التاريخ، يقول للزبرقان:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس
فلما سمع الزبرقان هذه الأبيات قامت قيامته وذهب إلى العبقرية المتحدرة، إلى عمر بن الخطاب وشكا إليه الوضع، فمن يحكم عمر في المسألة؟ أيحكم زيد بن ثابت الفرضي؟ لا.
فهو تخصصه فرائض: جدة وعمة وخالة، أيعطيها خالداً؟ لا.
فهو تخصصه ضرب الرءوس.
أيعطيها ابن عباس؟ لا.
فـ ابن عباس مفسر.
فدعا حسان بن ثابت -أعطى القوس باريها- فهو أديب الإسلام؛ فدعاه فقال له: هل ترى في هذا هجاءً؟ قال حسان ما هجاه ولكن سلح عليه.
فأنزله عمر في حفرة من بئر فأخذ يبكي فيها ويقول:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
(يقصد أبناءه في اليمامة)
ضيعت كاسبهم في قعر مظلمة فاغفر عليك سلام الله يا عمر
فلما وصلت عمر القصيدة دمعت عيناه، وكان رقيقاً رققه الإسلام، وقواه الإيمان، ورباه القرآن، فقال: علي به، اقطعوا لسانه.
ولكن قطعوه بالمال واشترى أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم منه، ووقع على العقد ألاَّ يسب مسلماً؛ فلما مات عمر أخذ يتكئ في المجالس ويسب من أراد ويمدح من أراد، وأمره عند الله.
والمقصود من هذا: {إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة:120] قاعدة.