حركة الأفكار قبل البعثة

قال المؤلف: بابٌ في حركة الأفكار قبل البعثة، وهذا يسهل لك فهم الحركة العظيمة من الأحبار والرهبان قبيل بعثته عليه الصلاة والسلام؛ فإن اليهود كانوا يستفتحون في المدينة على العرب، وكان اليهود مجاورين للعرب من الأوس والخزرج في المدينة، وكان اليهود يقرءون التوراة ويرون خبر الرسول عليه الصلاة والسلام، فكانوا يستفتحون على الذين كفروا، أي: يستفتحون على المشركين.

يقولون: غداً سوف يظهر النبي يقاتلكم ونقاتلكم معه وسوف نكون معه، لماذا يقول هذا اليهود؟

لأنهم ظنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يكون من اليهود لا من العرب، وكانوا يقولون: صفته كذا، ربعة أبيض مشوباً بحمرة، أمي لا يقرأ ولا يكتب، يخرج بين النخل، يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة، أوتي قوة ثلاثين، تنام عيناه ولا ينام قلبه، لا يتثاءب ولا يحتلم، وهذه أوصاف الرسول عليه الصلاة والسلام.

والأوس والخزرج من العرب ولم يكن عندهم كتاب، كانوا ينتظرون، فلما بعث عليه الصلاة والسلام فوجئ اليهود أنه بعث من العرب؛ فكفروا، قالوا: لا.

ليس هذا بالرسول، قال الأوس والخزرج: هذا الذي أخبرتمونا به، هذه أوصافه، قالوا: لا.

ليس هو، قال الله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89].

وكان في صفاته عليه الصلاة والسلام عند اليهود في التوراة أنه كلما أغضبته كلما زاد حلماً، كلما رفعت صوتك على الرسول صلى الله عليه وسلم كلما ازداد حلماً.

فلما أتى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة جاء تاجر من تجارهم اسمه زيد بن سنعة، رأى أوصاف الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فأراد أن يختبر حلمه، هل هو صحيح أم لا؟ فأتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: يا أبا القاسم! أنا رجل من تجار اليهود، وعندي مالٌ كثير، وأريد أن تأخذ من مالي تستعين به على غزواتك وعلى حوائجك، قال عليه الصلاة والسلام: لا بأس، فأخذ منه صلى الله عليه وسلم مالاً إلى الحول إلى سنة.

وبعد شهر أتى اليهودي والرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد في صلاة العصر يصلي بالناس، والصحابة قد اجتمعوا، فقال اليهودي التاجر: يا محمد! أعطني مالي الذي عندك، قال صلى الله عليه وسلم: أنت أعطيتني إلى حول -إلى سنة- قال: إنكم مطل يا بني عبد المطلب، أي: أنكم تماطلون الدائن، أنتم لا توفون، فتبسم عليه الصلاة والسلام، قال: أعطني مالي ولا تتبسم، فتبسم أكثر، فقام عمر -قال الرواي: تتدحرج عيناه رضي الله عنه من الغضب يريد اليهودي- فأجلس النبي صلى الله عليه وسلم عمر وقال: سوف أعطيك إن شاء الله، فأخذ اليهودي يرفع صوته وأخذ صلى الله عليه وسلم يتبسم، وأخذ يد اليهودي معه، وذهب به إلى بيته فقضاه، فقال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، ما من علامة في التوراة كانت مكتوبة إلا وجدتها فيك، إلا هذه العلامة فأردت أن أبتليك وأمتحنك فوجدتها فيك، فأشهد أنك رسولٌ من عند الله، وهذه صفاته عليه الصلاة والسلام.

ثم لما بعث عليه الصلاة والسلام من العرب منعهم الحسد أن يؤمنوا به، وكان أمية بن أبي الصلت المتنصر العربي، كثيراً ما يقول: إني لأجد في الكتب صفة نبي يبعث في بلادنا، أمية بن أبي الصلت ثقفي من أهل الطائف وشاعر، وكان يقرأ التوراة والإنجيل، وهو الوحيد الذي يقرأ في الطائف، كانوا يجتمعون فيكتب لهم الرسائل، ويخبرهم أنه سوف يبعث نبي، وكان هو يعرض بنفسه، يقول: هو الذي سوف يبعث؛ لأنه يقول: ليس هناك رجلاً مثقفاً في الجزيرة العربية إلا هو، أي: أكاديمي، أما البقية فليس عندهم ثقافة، الرسول صلى الله عليه وسلم أمي لا يقرأ ولا يكتب، لكن أمية بن أبي الصلت، يقرأ وشاعر ويكتب، وذاك الوقت لو وجد في العرب من يقرأ ويكتب وشاعر فهو الكامل عندهم، وهو صاحب القصائد العجيبة التي يذكر الله فيها، يروي قصة موسى عند فرعون في قصيدة قديمة عربية، يقول: أن موسى ذهب إلى فرعون، فقال:

فقولا له هل أنت سويت هذه بلا عمد حتى استقلت كما هيا

يقول: إن الله أرسل موسى إلى فرعون، فقال الله لموسى: قل له يا موسى: أأنت سويت السماء بلا عمد؟

وله قصيدة يحيي فيها ملك اليمن سيف بن ذي يزن، يقول:

اجلس بـ غمدان ذاك القصر في وله في قصر غمدان حالاً دونه حال

تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعاد بعد أبوالا

لأن العرب كانوا يهنئون سيف بن ذي يزن في اليمن ويحيونه؛ لأنه طرد أبرهة الأشرم، وطرد الأحباش الذين احتلوا اليمن، فهذا أمية بن أبي الصلت، يقول عمرو بن الشريد أحد الصحابة وهو سُلمي، كان يحفظ الشعر، قال: {أركبني صلى الله عليه وسلم وراءه على الدابة، فقال لي صلى الله عليه وسلم: تحفظ لـ أمية بن أبي الصلت شعراً، قلت: نعم يا رسول الله، قال: أنشدني، قال: فأنشدته بيتاً، قال: زدني، قال: فأنشدته ثانية، قال: هيه، فأنشدته ثالثاً، قال: هيه، حتى أنشدته مائة بيت، فقال صلى الله عليه وسلم: آمن لسانه وكفر قلبه}.

هذا أمية بن أبي الصلت لما بعث صلى الله عليه وسلم كفر؛ لأنه أسقط في يديه، لكن الله يقول: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] أصلاً ليست بالانتخابات، الله أعلم بالقلوب، والله أعلم بمن هو المهيأ لقيادة العالم وإصلاح البشر، هذه مهمة صعبة، فاختار الله الرسول عليه الصلاة والسلام، وترك هذا؛ فكفر هذا.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015