أعلن فرعون بعد أن رأى رؤيا: أن ناراً خرجت من بيت المقدس من فلسطين فأشعلت مملكته كلها، فذهب إلى المنجمين فقال: ما رأيكم؟ قالوا: ماذا رأيت؟ قال: رأيت كذا وكذا قالوا: يقتلك وينهي ملكك غلام من بني إسرائيل؛ فكتب مرسوماً: كلما ولد لبني إسرائيل ولد فالقبلة والسكين، على جنبه يذبح.
{وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [البقرة:49] قال الزجاج: ما أحمق فرعون! إن كان كتب الله له أن يقتله بنو إسرائيل فسوف يقتل سواء قتلهم أو لم يقتلهم، وإن لم يكتب الله عز وجل عليه ذلك فما معنى قتل الناس؟!
فأخذوا يقتلون، ولما استمر القتل وكثر أتى الوزراء إلى فرعون قالوا: يا فرعون!
قال: نعم.
قالوا: صبحك الله بالنار.
قال: آمين.
قالوا: قتلت أبناء بني إسرائيل وما أصبح عندنا خدم، ونريد أن تقتل أبناءهم سنة وتستحييهم سنة.
قال: سمعاً وطاعة؛ فأتى في سنة يذبحهم وفي سنة يتركهم، ففي السنة التي منع فيها ذبح بني إسرائيل فيه ولد هارون فسلم ونجا والحمد لله، وفي السنة الثانية ولد موسى، فلما أتت أمه نظرت إليه وعلمت أن المسألة مسألة إعدام، وكان جنود فرعون كل ليلة وكل صباح لا تخرج لتملئ الماء إلا وهم عند الباب! أتاكم مولود اليوم بشروا؟ قالوا: أتانا رجل.
قالوا: اعطونا إياه ويذبحونه.
فلما أتاها الولد نظرت إليه فإذا هو جميل بهي عليه من المحبة ما الله به عليم، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه:39] يقولون: لا يراك أحد إلا يحبك، حتى امرأة فرعون يوم رأته أحبته، ولذلك الأنبياء هكذا، أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم يرونه فيحبونه.
لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبيك بالخبر
فأخذته فلفته في قماش ووضعته في تابوت وحزمت الخيط بالتابوت وأنزلته في النهر، وهي كانت تسكن على الشاطئ، فأنزلت التابوت فيأتي الجنود فتخرج التابوت وتنزله في الماء، يذهب الجنود تعيد الخيط وترضعه، تسمع صوتاً عند الباب تنزل الخيط ويبقى في الماء، سحبته لترضعه فانقطع الخيط، لا يوجد تابوت، أشرفت على الماء ما وجدت شيئاً، أين ذهب؟ مزارع مصر ممتدة على طول هذا النهر، ولربما أخذه الجنود أو أي شخص، ولكن الحفظ الإلهي والرعاية السماوية أخذته إلى بيت الطاغية الأكبر ليترعرع في بيته وفي أحضان ملكه، فلما أتى به الخدم إلى زوجة فرعون فرحت به، فوصل الخبر إلى فرعون، فأراد قتله.
فقالت له: ما لي ولك ولد -هو عقيم وهي عقيم، أراد الله عز وجل ألا يجعل لها نسلاً منه؛ لأن الكافر أبتر- ونريد أن نربيه وجلست به تترجى وتتمنى وتتوسل قال: نعم، خذيه.
قالت: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} [القصص:9] قال: قرة عين لك أم أنا فلا.
قال ابن عباس: [[والله لو قال: قرة عين لي ولك كما قالت لجعل الله موسى قرة عين له]].
قالت في سورة القصص: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} [القصص:9] بدأت بنفسها ثم قالت: ولك.
نشأ هذا الطفل في حبابة وتصون؛ لأن الله يريد له أن يحول العالم، ولما كبر وشب وأصبح طفلاً ترتاح له النفوس تقدم إلى فرعون، وكان على السرير وكان له سلاسل من ذهب وجواهر على صدره فهو ملك، فاقترب منه فأعطاه كفاً مع الصباح! هذا أول الخير وأول المبشرات.
فقال: إيه صدقت الرؤيا، لأقتلنه هذا اليوم.
قالت آسية: أعرض عليك أمراً هذا لا يعرف، هذا طفل صغير وهذا لا يدري بمصلحته من مفسدته، نجمع له تمرة وجمرة، فإن أخذ التمرة فمعناه أنه عرف المصلحة فاقتله، وإن أخذ الجمرة فما يدري.
قال: أصبت.
فعرضت له جمرة وتمرة.
يقول أهل التاريخ والسير: أتى يأخذ التمر -الرجل ذكي يعرف والله يعطيه من المواهب والفطن ما الله به عليم، لأن الأنبياء ليسوا عاديين- فحرف جبريل يده إلى الجمرة، فأخذها فأوقعها في لسانه فارتتقت لسانه، فتركه فرعون.
شب وترعرع في قصة طويلة وإنما المقصود: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} [البقرة:49] ولكن نجى الله موسى من هذا الذبح في عام الميلاد، وذهب إلى البستان وتربى في القصر، مغامرة مكشوفة، ولذلك يقال:
فموسى الذي رباه جبريل كافر وموسى الذي رباه فرعون مؤمن
موسى هو موشى بالعبرية، و (مو) معناها الماء بـ اليهودية العبرانية، و (شى) شجر، وإنما سمي موسى ماء، لأنه ولد عند الماء والشجر فيسمونه ابن الشجر أو ابن الشجرة، أو ابن الماء والشجر، ذكر ذلك أبو السعود وغيره من أهل العلم، فترعرع واستقام حاله وانظر كيف تربى في بيت فرعون، وأما موشى ذاك السامري فإنه رباه جبريل على تربية الله أعلم بها، فخرج فاسقاً مارداً وهو الذي أتى بالعجل حتى عبد بنو إسرائيل أو بعضهم العجل، نسأل الله العافية.