وهنا عالم وطاغية, يدخل سعيد بن جبير على الحجاج في حوار حار ساخن والحجاج يريد ذبحه, ويعرف سعيد بن جبير أنه لن يخرج إلا مقتولاً, رأسه في جهة وجثته في جهة أخرى, فيقول الحجاج: من أنت؟
قال: أنا سعيد بن جبير - الحجاج السفاك الذي يقول فيه الذهبي: نبغضه ولا نحبه، ونعتقد أن بغضه من أوثق عرى الدين.
ويقول فيه أيضاً: له حسنات غمرت في بحار سيئاته, وبعض الناس يمدح الحجاج في بعض المواسم والمحاضرات, ويقولون: كان وكان! لكنه أهان الصحابة، وعذب أبناء المهاجرين والأنصار, وقتل العلماء, فأمره إلى ربه في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى- قال لـ سعيد بن جبير -قائم الليل، صائم النهار، المحدث الكبير الذي يقول فيه الإمام أحمد: مات سعيد بن جبير وما أحد في الدنيا إلا وهو محتاج إلى علمه, وهو من رواة البخاري ومسلم - من أنت؟
قال: سعيد بن جبير , قال: بل أنت شقي بن كسير!! قال: أمي أدرى إذ سمتني -أي: أدرى منك- قال: شقيت أنت وشقيت أمك, ثم قال له: والله لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى -يقول: أدخلك النار وهو لا يستطيع- قال: لو أعلم أنك صادق لاتخذتك إلهاً, قال: عليّ بالمال -ذكر هذه القصة المباركفوري صاحب مقدمة تحفة الأحوذي - فأتوا بالمال من الذهب والفضة أكياس ملئوها ذهباً وفضة, قال سعيد بن جبير: يا حجاج! إن جمعت المال لتتقي به من عذاب شديد فنعمّا صنعت, وإن كنت جمعته رياءً وسمعة، فوالله لا يغني عنك من الله شيئاً, فرفع المال, وقال: فعليّ بالجارية والعود -الآن في ساعة الاحتضار، وذبح العلماء يغني ويطبل ويرقص- فأتت الجارية المسكينة تضرب العود عند سعيد بن جبير: -هل رأى الحب سكارى مثلنا؟!! فلما ضربت العود بكى سعيد بن جبير , قال الحجاج: أهو الطرب؟
قال: لا والله.
لكن جارية سخرت لغير ما خلقت له، وعود قطع من شجرة يستخدم في معصية الله -انظر إلى بعد النظرة، عالم يرى أن الناس لا بد أن يكونوا عباداً لله, والشجر لا بد أن تسخر في طاعة الله, عود وموسيقى تستغل في المعاصي ليس بصحيح, مطبل ومغني يتصدر الأمة ليضلها عن سبيل الله ليس بصحيح, لأن أرذل الناس وأفشلهم وأسفلهم هم المغنون والمغنيات, والراقصون والراقصات الأحياء منهم والأموات, وهذا عيب بلا شك، ولو لم يكن محرماً في الكتاب والسنة لكان عيباً، والمصيبة أن هذا المغني وهذه المغنية يتصدرون الأجيال، ويطبلون للأمم، ويضلون الشعوب, ويقودونهم إلى الهاوية- قال لـ سعيد بن جبير: خذوه إلى غير القبلة, قال سعيد بن جبير: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115].
قال: أنزلوه أرضاً, قال: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55] قال: والله لأقتلنك قتلة ما قتلها أحد من الناس, قال: يا حجاج! والله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله بمثلها، فاختر لنفسك أي قتلة شئت! فأتوا يذبحونه؛ فقال في النفس الأخير: اللهم يا قاصم الجبابرة! اقصم الحجاج , اللهم لا تسلطه على أحد بعدي {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ٌ) [إبراهيم:42 - 43].
فذبحه, وأتى الحجاج يخور بعدها كما يخور الثور!
أتت له -في بعض الروايات- بثرة في جسمه كالدرهم، فحكها فافتشى في جسمه, يقول الحجاج وقد مكث شهراً بعد مقتل سعيد بن جبير ثم مات, يقول: ما نمت بعد مقتل سعيد بن جبير إلا رأيت وكأني أسبح في حمام من دم, وما تلذذت بطعام ولا شراب, وأخذ يخور كما يخور الثور, وحين مات ذكر أهل التاريخ والسير: أنهم مروا على قبره، فسمعوا صياحاً في قبره وكان أخوه محمد مع المارين، فقالوا: ما هذا الصوت؟ قال: رحمك الله يا أبا محمد! ما تترك قراءة القرآن حتى في القبر! يصيح من العذاب، ويقول أخوه ويزكيه: إنه حتى وهو في القبر لم يترك قراءة القرآن!! فهو يريد أن يعتذر له، وهذا أخوه محمد غاشم وظالم مثله، وقد كان حاكماً ظالماً في اليمن.
وهناك قصة ذكرها أهل العلم: أن رجلاً مسكيناً من أهل اليمن كان يطوف بالبيت, قال طاوس: فصليت ركعتين عند المقام، فلما انتهيت من الركعتين التفت فإذا بجلبة السلاح والحراب والسيوف والرماح، فالتفت! فإذا به الحجاج بن يوسف الثقفي , قال: فجلست وسكت, وإذا بهذا الأعرابي مشى من عند الحجاج -لا يدري أنه الحجاج - فنشبت حربة أو رمح في رداء هذا الأعرابي، فوقعت على الحجاج , فأمسكه الحجاج، وقال: من أين أنت؟
قال: أنا من أهل اليمن.
قال: كيف تركت أخي؟
قال: من أخوك؟
قال: محمد بن يوسف , قال: تركته سميناً بطيناً -يقول: لا تخاف عليه أما الأكل والشرب فإنه ممتلئ لكن لا قرآن ولا قيام ليل- قال: لست أسألك عن صحته بل أسألك عن عدله, قال: تركته غشوماً ظلوماً، قال: أما تدري أني أخوه؟
قال: أتظن أنه يعتز بك أكثر من اعتزازي بالله, قال طاوس: ووالله لقد تأثرت منها وما زلت ألحظ إلى ذاك وهو يطوف أتظن أنه يعتز بك أكثر من اعتزازي بالله.
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
ولذلك لا يندم النادم إلا في سكرات الموت وفي ساعة الاحتضار.