صح عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه كما في السير أن الوفاة لما حضرته أتته ابنته عائشة الصديقة بنت الصديق المبرأة من فوق سبع سموات, الطاهرة العفيفة, جلست عند رأسه تبكي، وتقول: يا أبتاه! صدق الأول حين قال:
لعمرك ما يغني الثوى عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
ومعنى البيت ينطبق على حاتم الطائي كريم العرب, الذي لم ينفعه كرمه, لأنه لم يستعد لساعة الاحتضار في حياته, ولذلك صح عن عدي بن حاتم أنه قال: {يا رسول الله! إن أبي كان يكرم الضيف، ويحمل الكل، ويعين على نوائب الدهر، فهل ينفعه ذلك عند الله؟ قال: إن أباك طلب شيئاً فأصابه} قال سبحانه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23].
فمعنى البيت: يقول: والله لا يغني الغنى ولا المنصب ولا الجاه إذا حشرجت الصدور بالنفوس, أو حضرت سكرات الموت, فالتفت أبو بكر إلى عائشة وقال: يا بنية! لا تقولي ذلك، ولكن قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:19 - 21] ولما مات بحثوا عن ميراثه -خليفة العالم الإسلامي ذهب والدنيا وفضتها تحت يديه- خلف بغلة وثوبين, قال: كفنوني في واحد وأرسلوا البغلة والثوب إلى عمر بن الخطاب الخليفة، وقولوا: [[يا عمر! اتق الله لا يصرعنك الله كمصرعي!]] ووصلت البغلة والثوب إلى عمر، فجلس يبكي ويقول: [[أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر]] إي والله! أتعب الخلفاء بعده! والله لقد أتعب الكل، فعلى كل مسئول أن يقتدي به ويمشي على مثل سيرته.
ولذلك ذكر ابن القيم وغيره من أهل العلم: أن أبا بكر كان يخرج كل صباح مع طلوع الشمس إلى خيمة في ضواحي المدينة , فيدخل على عجوز عمياء حسيرة كسيرة من الرعية, فيكنس بيتها، ويصنع طعامها، ويحلب شياهها, هذا أبو بكر الأول بعد الرسول عليه الصلاة والسلام, المجاهد الكبير خليفة الرسول عليه الصلاة والسلام وهو رجل الساعة, فإذا انتهى رجع إلى المدينة , فأخذ عمر يتفقد أبا بكر كل صباح أين يذهب؟!
وفي ذات يوم دخل عمر بعد أن خرج أبو بكر , فقال للمرأة: من أنت؟
قالت: أنا امرأة عمياء حسيرة كسيرة مات زوجي منذ زمن, وما لنا من عائل بعد الله إلا هذا الرجل الذي يدخل عليّ, قال: أعرفتيه؟ قالت: والله ما عرفته! قال: ماذا يفعل؟ قالت: يكنس البيت, ويحلب شياهنا, ويصنع لنا طعامنا, فجلس عمر يبكي، وقال: [[هذا خليفة رسول الله هذا أبو بكر]] رضي الله عنه وأرضاه.
سلام على أبي بكر في الخالدين, ورضي الله عنه في الصادقين, وجمعنا به في دار كرامة رب العالمين.
وهذا شاعركم الأول الداهية ابن عثيمين، يقول هذا -الشاعر الإسلامي الذي توفي قبل أربعين سنة تقريباً-:
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب
نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها وعلّ الردى مما نرجيه أقرب
ونبني القصور المشمخرات في الهوا وفي علمنا أنا نموت وتخرب
إلى الله نشكو قسوة في قلوبنا وفي كل يوم واعظ الموت يندب
صح في التاريخ أن الخليفة العباسي هارون الرشيد الذي تحدّى الغمامة والسحب أن تمطر في أرضه, بنى قصراً مشيداً في بغداد، وقال للشعراء: ادخلوا؛ ليمدحوا القصر والخليفة، ويمدحوا الدنيا، والوزارة، والمال, فدخلوا جميعاً، ثم دخل أبو العتاهية الزاهد، فقال لـ هارون في قصيدةٍ:
عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور
قال هارون وقد ارتاح وانبسط وهش وبش: هيه, أي: زد, قال:
يجري عليك بما أردت مع الغدو مع البكور
قال: هيه, قال:
فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور
فهوى يبكي حتى أغمي عليه.