وتأتي مسألة الإيجاز والاختصار.
ولو أراد أحدنا أن يتكلم عن هذه القضايا لأخذ ست محاضرات: محاضرة في عقوق الوالدين، ومحاضرة في وأد البنات، ومحاضرة في قيل وقال، ومحاضرة في كثرة السؤال، ومحاضرة في إضاعة المال، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام جمعها في كلمة، وهذه هي البلاغة والفصاحة: {ومَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48] فهو يخرج من بين الصخور والجبال السود في مكة فإذا هو أفصح فصيح.
يقول كريسي موريسون الأمريكي: إن من أعظم معجزات هذا النبي الأمي أنه ما تعلم ولا قرأ ولا كتب، وبعد أربعين سنة يكون أكبر مفتٍ في الدنيا، وأكبر خطيب في المعمورة، فهذه أكبر معجزة.
إنسان عاش أربعين سنة، ما حمل قلماً ولا عرف سبورة ولا شيخاً ولا أستاذاً، ويأتيه الوحي في حراء، ثم ينطلق يتكلم للناس فإذا هو أفصح من يتكلم في المعمورة، وأفتى مفتٍ، وأخطب خطيب، وأشجع شجاع، وأقوى قائد، وأعظم سياسي في المعمورة! فهذه معجزة وحدها.
يقول شوقي:
أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم
يقول: عيسى عليه السلام كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، لكن أنت أحييت شعوباً، أسلم أهل الجزيرة، وقد كانوا رعاة غنم وأبل، ولم يكن عندهم ثقافة ولا حضارة ولا فنون ولا دراسة ولا شيء، وبعد خمس وعشرين سنة يدخلون حدائق الأندلس، ويؤذنون في قرطبة، ويدخلون السند، ويستشهدون في كابل، ويرفعون لا إله إلا الله في صقلية وقبرص، وهذا كله بهذا الدين.
وهذا هو السر العظيم الذي أتى به محمد عليه الصلاة والسلام -الإيجاز في الكلمات- وهذه مفتقده عندنا مهما أوتينا من الفصاحة، وهي موهبة من الله.
ما بنى جملة من اللفظ إلا وابتنى اللفظ أمة من عفاء
كلمة واحدة منه عليه الصلاة والسلام يحيي بها الله ألوفاً من الناس.