ومنها كثرة الاستغفار: ورد عن ابن تيمية أنه قال: إنها لتعجم علي المسألة فأستغفر الله أكثر من ألف مرة فيفتحها الله علي، يقول: تصعب عليه المسألة فيبحث عن الترجيح والتحقيق فتتعارض عليه أقوال العلماء -بعض الأوقات كما يقول الشوكاني: تتعارض الأدلة حتى تقع عمائم الأبطال، وتتكسر النصال على النصال، يقطر عرق الإنسان، ويفض رأسه وتتشنج أعصابه كيف يجمع بين هذه الأقوال- فيأتي ابن تيمية بالاستغفار؛ لأنه لا يفتحها إلا الواحد الأحد، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [الأنعام:59] دائماً يبتهل ويدعو الله بالفتح، بل ورد في ترجمته: أنه كان يذهب إلى الخربة القديمة قبل الفجر ويمرغ وجهه في التراب ويبكي ويقول: يا معلم إبراهيم! علمني.
ويا مفهم سليمان فهمني، فعلمه معلم إبراهيم وفهمه مفهم سليمان.
فتأتي إلى النحو فإذا هو أقوى من سيبويه، وفي المنطق أقوى من ابن سينا، وفي الحديث كـ يحيى بن معين، وفي الفقه أقوى من السبكي الشافعي الذي معه، كان يجلس أمام علماء المذاهب فيسمع من عالم المذهب فيقول: مذهبك ليس كذا، الصحيح في مذهبك كذا.
جاء أبو حيان الأندلسي النحوي الكبير صاحب البحر في التفسير فذكر سيبويه، فقال ابن تيمية: في الكتاب لـ سيبويه ثمانون خطأً لا تعرفها أنت ولا سيبويه، قرأ كتاب سيبويه الذي ما يقرأه الإنسان إلا كأنه حديد، وسجل ثمانين خطأً، قرأ المنطق ففتح الله عليه.
كان يغلق عينيه بعد صلاة العصر ويتكلم بشتى العلوم، ويفتحها مع الغروب، ثم يعتذر عن زملائه، وهذا يذكره ابن عبد الهادي يعتزلهم يسلم على الجالسين ويقول لهم: اعذرونا سافرنا عنكم، يغلق عينيه ثم ينطلق مثل البحر {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21].
وصح أن ابن دقيق العيد عالم الشافعية الذي يجعلونه مجدد القرن السابع، دخل على ابن تيمية فلما رآه يتكلم، قال: رأيت رجلاً كأن القرآن والسنة أمام عينيه، يأخذ ما شاء ويترك ما شاء، ثم يقول لـ ابن تيمية: والله ما أظن أن الله يخلق مثلك -أستغفر الله العظيم- فغضب ابن تيمية، حتى قال ابن تيمية:
أنا المكدي وابن المكدي وهكذا كان أبي وجدي
فقير يأخذ هذا العلم بالأسباب، بالاستغفار، وبالفتح من الله، دائماً يرفع يديه، يعلم أنه لا يفتح عليه إلا الواحد الأحد، ولذلك منحه الله من العلوم ما الله به عليم، وأنا لا أعرف أحداً بعد الصحابة أعلم من ابن تيمية، وابن تيمية، لم يتكرر كما يقول المستشرق المجرم، جولد زيهر الذي قال: وضع ابن تيمية ألغاماً في الأرض فجر بعضها محمد بن عبد الوهاب وبقي بعضها لم يفجر حتى الآن.