كان مبارك والد صاحبنا هذه الليلة، والد عبد الله حارساً على بستان، يحرس الرمان والتفاح والليمون أن يعتدي عليه سراق أو لصوص بأجرة بسيطة، فكان يبدأ من الصباح في عمله، وكان يتخلل عمله بركعات يركعها في البستان، ولا يفتر لسانه من ذكر الله عز وجل، فإذا استلم راتبه من سيده تصدق بثلث الراتب، وأنفق عليه وعلى أهله ثلثه وخزن ثلثه، لما سوف يعرض له.
دخل سيده ومعه ضيف يزور البستان، قال: يا مبارك! ائتنا برمان، فأتى برمان حامض، ووضعه بين يديه، قال: هذا حامض، ائتنا بغيره، فأتى برمان حامض، قال: أنت لا تفهم ولا تعي؟ هذا حامض، قال: والله لا أعرف الحامض من الحلو، قال: أما ذقته وأنت في البستان من كذا وكذا سنة؟ قال مبارك: أنت لم تأذن لي أن أذوق ما في البستان.
أي ورع هذا! أي صفاء عقدي! أي عبادة! أي مراقبة لله! فأنجب هذا المبارك -وهو مبارك على اسمه- عبد الله بن المبارك، وترعرع شاباً فصيحاً ذكياً، لكن يقال: إذا واجهته عرفت أنه ليس بعربي، تعرف أنه مروزي وعجمي من شكله.
كان فصيحاً ينظم الشعر البليغ، وهو من أكبر الشعراء، وسوف تسمعون هذه الليلة أبياته التي تهز أنياط القلوب وهو يحرك بها الأمة الإسلامية من شرقها إلى غربها.
عاش رحمه الله فتتلمذ على كتب الحديث، ثم بدأ مسيرته فغطى جوانب الكمال، حتى قال بعض الفضلاء: لو قيل لي: اختر رجلاً بعد الصحابة اجتمعت فيه الفضائل، لاخترت عبد الله بن المبارك، وكان بعض تلاميذه يقول: تعالوا نجلس ونعدد فضائل ابن المبارك، فيعدودن قالوا:
كان يقوم الليل، ويصوم النهار، ويتصدق، ويجاهد، ويدعو إلى الله، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ثم هو شاعر، وأديب ولغوي، وهو مع ذلك فقيه محدث.
هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله
وهذه هي صفات يتقلدها عباد الله الصالحون يوم يشربون هذا الدين كالماء الزلال، اسمحوا لي أن نبدأ وهذا للذهبي، لكنه فقد كتابه قضِّ نهارك مع ابن المبارك، يقول: ابن المبارك إمام شيخ الإسلام، عالم زمانه، وأمير الأتقياء في وقته أبو عبد الرحمن الحنظلي مولاهم التركي، ثم المروزي الحافظ الغازي، أحد الأعلام.