الإنفاق في سبيل الله

قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في صفتهم: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة:3] ما قال: وما رزقناهم ينفقون، ولكن قال: (مما رزقناهم) أي: بعض ما رزقناهم، فهم ينفقون من بعض ما رزقناهم، ولو قال: وما رزقناهم ينفقون؛ لكان هذا شاقاً على الناس، ولا يستطيع الإنسان أن ينفق ماله كله، لكن قال: (مما رزقناهم) أي: شيئاً مما رزقناهم ينفقونه، فهؤلاء من الذين يدركهم الفلاح إن شاء الله.

لكن الله تعالى يقول: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] فكيف تؤثر على نفسك ولا تترك لنفسك شيئاً؟ وهنا يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة:3] فهذه الآية تقول لك: أنفق من بعض ما رزقك الله، وتلك الآية يمدح الله فيها من أنفق كل شيء وجلس وحيداً فكيف نجمع بينهما؟!

قال بعض أهل العلم: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] هذا لمن وثق برزق الله وبما عند الله، ومن أصبح التوكل عنده كتوكل أبي بكر الصديق؛ فله أن ينفق ماله كله، وأما مثل أحوالنا ممن لم يصل توكله إلى درجة عالية فينفق بعض ماله.

فـ أبو بكر أنفق ماله كله في الإسلام، فما رد الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً؛ لأنه يعرف توكله، وبعض الصحابة أتوا بمالهم فقال لهم عليه الصلاة والسلام: {أمسك عليك بعض مالك} وأخذ منه صلى الله عليه وسلم القليل وترك له الكثير؛ لأنه يعرف توكله.

فمن بلغ القمة في التوكل فليس عليه أن ينفق ماله، ومن نقص توكله فلينفق شيئاً من ماله، قال تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة:3]

وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:262] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان:67] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:267] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران:17].

وقد بلغ كثير من الصحابة في الإنفاق مبلغاً عظيماً، منهم أبو بكر وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عن الجميع.

فأما أبو بكر فأعطى الإسلام كل ما عنده، أعطى الإسلام ماله ودمه وجهده ووقته؛ فعوضه الله أن جعله أكبر صديق بعد الأنبياء والمرسلين.

وأما عثمان فحفر بئر رومة للمسلمين فسقاه الله من سلسبيل الجنة، وجهز جيش تبوك فقال له صلى الله عليه وسلم: {غفر الله لـ عثمان ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم، اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض}

وأما ابن عوف فأنفق ما يقارب سبعمائة جمل في لحظة واحدة، بأقتابها وأحلاسها وطعامها وزبيبها في سبيل الله خالصة مبرأة، فأخذها الفقراء وقالوا: سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنة.

لا ينكتون الأرض عند سؤالهم لتطلُّب الحاجات بالعيدان

بل يشرقون وجوههم فترى لها عند السؤال كأحسن الألوان

وإذا الغريب أقام وسط رحالهم ردوه رب صواهل وقيان

وإذا دعا الداعي ليوم كريهة سدوا شعاع الشمس بالفرسان

قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة:3] و (من) هذا تبعيضية، فكأنه قال: من بعض ما رزقناهم ينفقون، فالمطلوب من الإنسان أن ينفق، وإذا أمسك الشيء فإنما أتلفه، وإذا أنفق الشيء فإنما أمسكه.

أنت عبد المال إن أمسكته وإذا أنفقته فالمال لك

وقد ذكر العلماء كثيراً من قصص الكرماء والبخلاء، وأدوى داء هو البخل: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد:38] {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96].

والناس في الإنفاق على ثلاثة أقسام:

قسم يريد به الرياء والسمعة: فليس له حظ ولا نصيب في الآخرة، وهو أول من تسعر به النار.

وقسم ينفقه كرماً وحياءً: فله أجر ومثوبة، وقد يكون عادة.

وقسم ينفقه بقصد ونية وإخلاص: فهو المأجور العابد بماله لله الواحد الأحد.

وممن أتلفوا أموالهم فطلبوا الصيت: حاتم الطائي، كان من أكرم الناس، فعوضه الله بالصيت لأنه أراد الصيت، بالكرم حتى في مجالسنا اليوم دائماً يذكر اسم حاتم الطائي.

ومنهم: ابن جدعان كريم مكة، كان فقيراً صعلوكاً يرعى الغنم في عرفات، فاكتشف قدوراً من ذهب، فذهب بها وأطعم الناس فأصبح من أكرم الناس ورزقه الله الصيت.

أين الرجلان؟ أفي الجنة أم في النار؟

روي فيهما حديثان في صحيح مسلم، أما حاتم الطائي فقال ابنه عدي: {يا رسول الله! أبي كان يكرم الضيف، ويحمل الكل، فهل ينفعه ذلك عند الله؟ قال: لا.

إن أباك طلب شيئاً فأصابه} أبوك طلب الدنيا والصيت والسمعة فله الصيت والدنيا والسمعة: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16].

وأما ابن جدعان فتقول عائشة: {يا رسول الله! ابن جدعان كان كريماً وكان مقرياً، فهل ينفعه ذلك عند الله؟ قال: لا.

إنه لم يقل يوماً من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين}.

وكان له خادم ينادي في الصباح من رأس جبل أبي قبيس ويقول: من أراد لباب البر بنسير العسل فليأت مأدبة ابن جدعان.

فيهب الناس بأطفالهم ونسائهم فيأكلون، فإذا أتت الظهيرة نادى خادمه من على جبل أبي قبيس: من أراد الثريد فليأت مائدة ابن جدعان فيأتون؛ حتى يقول عليه الصلاة والسلام في غزوة بدر: {ائتوني بـ أبي جهل قالوا: يا رسول الله! ما عرفنا جثته، إنه مقطوع الرأس -أصبح رأسه مقطوعاً كالشاة، رأسه في واد وجثته في واد آخر- فقال: تعرفونه بجرح في ساقه أو في ركبته، تصارعت أنا وإياه ونحن شباب على مائدة ابن جدعان فصرعته.

فأتوا على ساقه فكشفوا فوجدوا الجرح، فسحبوا جثته إلى الرسول عليه الصلاة والسلام}.

وكان ابن جدعان يقول للفقراء: لا يسألني أحد؛ لأنه لا يريد أن يذهب ماء وجهه أمامه، يقول: لا تسألني، قف أمامي وأنا سوف أعرف فيقول أمية بن أبي الصلت:

أأذكر حاجتي أم قد كفاني حباؤك إن شيمتك الحباء

إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضه الثناء

ولذلك قال ابن تيمية: الدعاء ثناء والثناء دعاء؛ لأن العبد عندها يقول: لا إله إلا الله يريد شيئاً، والعبد لا يقول: يا قدوس! يا أحد! يا صمد! إلا لأنه يريد شيئاً.

وأما أجواد الإسلام فاختلف فيهم، ولا بأس أن نذكرهم في باب الإنفاق، فقد ذكر الذهبي أجواد العرب في الإنفاق، وذكر أنه اختلف في الحرم جلاس وسمار في عهد التابعين من هو أكرم العرب آنذاك من المسلمين؟

فقال قائل: عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وقال ثان بل هو: قيس بن سعد بن عبادة، وقال ثالث: بل أكرم العرب عرابة الأوسي.

فقال رجل منهم: كل منكم يذهب إلى الذي يرى أنه أكرم العرب فيأتي بزي مزرٍ وزي فقير، ثم يسأله ويأتي إلينا بما أعطاه ذاك الكريم، ونرى أي العطايا أكثر.

فذهب الذي يريد عبد الله بن جعفر في زي فقير، فتعرض له فوجده قد خرج من المدينة يريد دمشق في الشام، ومعه فرس وعنده سيف وحلي الفرس، فقال: أنا رجل فقير منقطع أريد منك مالاً.

فقال عبد الله بن جعفر: لو أتيتني وأنا في المدينة لأعطيتك وأكثرت لك، ولكن خذ الفرس وخذ السيف، أما أنا فسوف يعرفني الناس ويركبونني.

قال: لا.

قال: والله لتأخذنه؛ فأخذ الفرس والسيف وترك الرجل تحت شجرة.

وأما صاحب قيس فأتى إليه وطرق عليه الباب، فخرجت الجارية وقالت: ماذا تريد؟ قال: أنا رجل فقير أريد قيساً.

قالت: هو نائم، ولكن خذ ألف دينار ولا توقظ سيدي ودعه ينام.

فذهب ومعه ألف دينار، تقارب عشرة آلاف درهم.

وذهب الذي يريد عرابة الأوسي، فوجده خارجاً من بيته يريد الصلاة، وهو أعمى وله عبدان قد اتكأ بيمينه على واحد واعتمد على الآخر، فقال له: أنا رجل منقطع؟ فقال عرابة الأوسي: والله ما عندي في بيتي شيء؛ لقد أذهبته النفقات، وليس عندي إلا هذان العبدان فخذهما لك.

فقلت: أنت أعمى! قال: خذهما.

فأخذتهما، وأصبح يتلمس من عماه إلى المسجد حتى دخل المسجد.

فعادوا، فقال الذي حكم في القصة: أما قيس بن سعد فهو كريم، ومن كرمه أن الجارية تعطي ألف دينار فكيف إذا استيقظ هو، ولكن لا بأس.

وأما عبد الله بن جعفر فسوف يعرفه الناس ويحملونه، وهو كريم لأنه ترك نفسه في الصحراء وحده.

أما أكرمهم فهو عرابة الأوسي؛ لأنه أعمى وقد أنفق أمواله وما بقي عنده إلا هذان العبدان، فأعطاك وأخذ يتلمس إلى المسجد، ثم يقول فيه القائل:

إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين

رأيت عرابة الأوسي يسمو إلى العلياء منقطع القرين

وهو أوسي من الأنصار، رضي الله عنه وعن آبائه وعن كل رجل من الأنصار، فإننا نتقرب إلى الله بحبهم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015