أيها الإخوة الكرام! والله ما ذاق الناس أَمَرَّ من المعاصي، ولا تجرعوا أخبث ولا أشد ولا أنكى من السيئات، ولقد حاول كثير من الناس أن يتناسى الخطايا ولو كانوا من الكفار، ولكنهم وجدوا ألماً وقلقاً ويأساً وقنوطاً وبعداً عن الواحد الأحد؛ لأن من قرب من الله قربه وأتحفه، ومن ابتعد منه أضناه وأشقاه في الدنيا والآخرة.
أعظم أثر للذنب والخطيئة الضيق والهم والغم والأسى واللوعة والحزن، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126].
قال ابن تيمية وهو يتحدث عن بعض أصحاب المنطق في المجلد الرابع من فتاويه: قيل لهذا الرجل المتكلم المنطقي: تب إلى الله وعليك بالعبادة لتعرفك بالله -لأنهم يسلكون مسالك نظرية في معرفة الله والكون والحياة ليست مسالك السجود ولا التسبيح ولا تدبر القرآن- فقال هذا الرجل المنطقي الفلسفي: أريد ذلك ولكن قلبي عليه الظلمات يعني: حجب.
ويقول ابن تيمية في المجلد الأول في درء تعارض العقل والنقل ويتكلم عن العلامة المعتزلي الذكي ابن الخطيب أو ابن الخطاب يقول: ومع ذلك كان بعيداً عن الله بسبب بعده، ولو سلك الطريقة المحمدية الشرعية كان وصل، وصل إلى من؟ إلى رضوان الله، قال: وهو صاحب تلكم الأبيات التي يقول فيها:
وحقك لو أدخلتني النار قلت للذين بها قد كنت ممن أحبه
يقول: يا رب! لو أدخلتني النار، فإنني سأتكلم وأخطب وألقي محاضرة في أهل النار، وأقول: أنا كنت أحب الله.
وهي أبيات جميلة بديعة، ولكنها من رجل ما عرف الطريق.
وحقك لو أدخلتني النار قلت للذين بها قد كنت ممن أحبه
وأفنيت عمري في علوم كثيرة وما بغيتي إلا رضاه وقربه
أما قلتمُ من كان فينا مجاهداً سيحمد مسعاه ويكرم قربه
على ذلك لكن ما سلك طريق التقوى فضاق حاله.
وبعضهم يصل إلى درجة الانتحار وتصعب عليه الحياة، قال سبحانه: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22] وقال سبحانه {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125] إذا عُلم ذلك فيا إخوتي! اعلموا أن من أعظم عقوبات الذنب والخطيئة الضيق، ولذلك قال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] والأستاذ سيد قطب -رفع الله منزلته في الجنة- تكلم بكلام بديع، حتى أنه يقول: كلمة (ضنكا) صعبة في النطق يكاد الإنسان أن يختنق بها لأنها تؤدي إلى معنى عجيب، وهي الحياة التي يعيشها المعرض عن ذكر الله، سكنوا -والله- في ناطحات السحاب، واستقلوا السيارات الفاخرة، وحصلوا على المناصب العالية؛ ولكن لما أعرضوا عن منهج الله أرداهم وجعل حياتهم تعاسة عليهم.
قال سبحانه: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33 - 35].
تعال معي يا طالب العلم يا داعية الإسلام إلى حياة شيخ الإسلام ابن تيمية، يقول عنه ابن القيم يقول شيخنا شيخ الإسلام: إني لأجد من الحياة والروح عن السعادة ما أقول: لو أن أهل الجنة فيما أنا فيه لكانوا في عيش طيب، أدخلوه السجن، أوصدوا عليه الباب، حاولوا قتل مبادئه، حاولوا إطفاء نوره، فقال وهو يتبسم وينظر إلى البواب: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] ثم قال كلمة أشبه بالمقطوعة الشعرية يقول: "ماذا يفعل أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري أنَّى سرت فهو معي، أنا قتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وسجني خلوة".
ابن تيمية يدخل على ابن قطلوبك السلطان السلجوقي -الذي ما يعرف يقرأ الفاتحة، مسلم لكن بالهوية- فيقول ابن قطلوبك يا بن تيمية وددنا أنا لو زرناك في بيتك فأنت عالم زاهد قال: دعنا من دركواناتك يا بن قطلوبك، كان موسى يأتي فرعون في اليوم مراراً وتكرارً، ثم قال له ابن قطلوبك: يا بن تيمية أصحيح ما قيل عنك؟ قال: وماذا قيل؟ قال: يزعم الناس أنك تريد ملكنا -يظن أن هذا الكرسي كل شيء- يقول ابن تيمية: ملكك؟ قال: نعم.
قال: والذي نفسي بيده! ما ملكك وملك آبائك وأجدادك يساوي عندي فلساً.
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريباً
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليباً
قال الذهبي في ترجمة عبد الملك وما أدراك ما عبد الملك؟! عبد الملك بن مروان خليفة دندنت له الدنيا وطنطنت ما يقارب ثلاثين سنة، نشر المصحف بين يديه صباح نهار ثم أغلقه وقال: هذا آخر العهد بك، قد صح هذا الكلام عنه، قال الذهبي: اللهم لا تمكر بنا، ملك الدنيا وقتل العظماء وذبح الملوك كذبح الدجاج، فلما أتته سكرات الموت نزل من على سريره وقال: يا ليتني ما توليت الخلافة، يا ليتني كنت غسالاً، قال سعيد بن المسيب: لما وصله هذا الكلام [[الحمد لله الذي جعلهم يفرون إلينا وقت الموت ولا نفر إليهم]] وقال إبراهيم بن أدهم: [[نحن في عيش لو علم به الملوك لجالدونا عليه بالسيوف]].
ما هو العيش؟ أعيش الخبز والجرجير؟ أو عيش السيارة والفلة؟ أو عيش الملابس؟ لا والله، إن هذه يشترك فيها الناس جميعاً بل حظ الكافر أعظم من حظ المؤمن، فإنا نجد كثيراً من المؤمنين يسكن خيمة وينام على الرصيف ولا يجد كسرة خبز، بينما الكافر يتقلب كالحمار في النعم، يقول الله عنهم: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3] ويقول أيضاً: {الَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:12] لكن حياة الإيمان، حياة القلوب والاتصال، حياة السجدات، حياة التسبيح والتهليل، حياة التوبة والاستغفار، وإني لأ عجب منكم أشد العجب وأسأل الله أن يثبتني وإياكم أن تحلوا في هذه البقعة الظالم أهلها وتحافظوا على مسيرتكم مع الله، حتى أني رأيت من الشباب من يحافظ على جزئيات السنة بيض الله وجهه، ورفع منزلته، جزئيات السنة في بلد كافر ملحد وثني لا يعرف الله، وهذا من الانتصار على الشهوات، وهذا والله من توفيق الله للعدل أن ينتصر في مثل هذا المكان.
حدثنا داعية من الدعاة بسند جيد: أن طالباً من طلابنا المسلمين ذهب إلى لندن في بريطانيا ليدرس -ولندن للإفادة والفائدة عاصمة بريطانيا وصل هذا الطالب المسلم وهو يحمل مبادئ لا إله إلا الله، وتربى على لا إله إلا الله، في قلبه شجرة الإيمان تهز أغصانها كل حين، فكلما أراد أن ينظر قال الإيمان: لا.
وكلما أراد أن يقبل ويغني مع الموسيقى قال الإيمان: لا.
وكلما أراد أن يمد يده إلى الكأس قال الإيمان: لا.
ما تربى على جمع الطوابع والمراسلة وصيد الحمام والدجاج، وأغنية هل رأى الحب سكارى مثلنا، لا.
ذهب هناك مؤمناً يحمل هوية الإيمان، فوصل ثم سكن مع أسرة بريطانية فأدخلوه في البيت مضطراً: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119] فلما دخل كان يصلي الفجر في الجو القارس جو الثلج، يقوم إلى الصنبور فيتوضأ، فتقول عجوز بريطانية أعمى الله قلبها، قالت: لماذا لا تؤخر الصلاة عن هذا الوقت؟ قال: ديني أمرني أن أصلي في هذا الوقت، قالت: لو أخرت لأن البرد قارص قال: لو أخرت ما قبل الله مني، فهزت رأسها وقالت: هذه إرادة تكسر الحديد.
ونعم والله إنها إرادة تكسر الفولاذ بل تكسر الصخور، انتصار الإيمان في بلد الطغيان، ولعلمكم حفظكم الله أن هؤلاء يبحثون عن السعادة وأنتم أدرى بذلك، حتى يأتي مؤلف دايل كارنيجي الذي ألف دع القلق وابدأ الحياة أو كارنيدي في لفظ وفي رواية ولا يضر الاختلاف، أتى فألف كتابه هذا كيف تصل إلى السعادة؟ كيف تزيل الهم؟ كيف تقضي على الغم؟ ولكن ما انتصر في الأخير قالوا: وأخذ سكيناً ونحر نفسه، فر من الموت وفي الموت وقع، عجباً لك.
قال حمار الحكيم توما لو أنصف الدهر كنت أُرْكَب
فإنني جاهل بسيط وصاحبي جاهل مركب
يريد أن يهدي أمته ولكن ما اهتدى، ويريد أن يوصل نوراً إلى القلوب ولكن ما وصل النور إلى قلبه، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44].