إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
عنوان هذه الدرس "قذيفة العصر"، ويعلم الله لقد فكرت اليوم في سورة العصر, وفي معالمها وأحكامها وأضوائها وإشراقاتها, وأردت أن يكون حديثها هو هذه الليلة, ونورها نور هذه الليلة، حتى قرأها فضيلة الشيخ أحمد الحواش في صلاة المغرب, فتواردت الأفكار واتسقت الخواطر على أن تكون هذه السورة هي درسنا هذه الليلة, وهي كلام الواحد الأحد الذي: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] الكلام الذي لم يبلَ على كثرة الترداد, ويزداد عمقاً وأصالة وإبداعاً وإشراقاً, يقول شوقي عن هذا الكلام:
آياته كلما طال المدىجدد يزينهن جلال العتق والقدم
أتى على سفر التوراة فانهزمت فلم يفدها زمان السبق والقدم
ولم تقم منه للإنجيل قائمة كأنه الطيف زار الجفن في الحلم
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى عن كلامه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى عن كلامه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].
فما هي هذه السورة؟
وما مضمونها؟
وماذا تريد؟
بسم الله الرحمن الرحيم: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3] فهذان سطران أعجزا البشرية.
وقد تحدى الله الناس أن يأتوا بسورة من مثل هذا القرآن, قال أهل العلم: كسورة العصر أو الكوثر, لكنهم ما استطاعوا، جرّب ذلك بعض الملاحدة والفلاسفة والزنادقة والمعطلة فباءوا بالفشل.
فمن ذلك الكندي الطبيب الفيلسوف: قرأ قوله تعالى في أول سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1] , فقال: أنا أستطيع أن أنظم مثل هذا, فدخل بيته وأغلق بابه وأخذ القلم والقرطاس وجلس يكتب فأيبس الله يمينه, فما رفعها إلى فمه مرة ثانية, لأن هذا الكلام لا يمكن أن يأتي به البشر، فكلام البشر كالبشر, وفضل كلام الله على كلام البشر كالبون الذي بين الخالق والمخلوق, فتعالى الله علواً كبيراً أن ينال كلام الناس كلامه, أو أن يكون هناك تناسب أو نسبة بين كلامه وبين كلام الناس.