أبو بكر الصديق: يقول الإمام أحمد في كتاب الزهد بسند جيد: [[دخل أبو بكر مزرعة رجل من الأنصار فرأى طائراً يطير من شجرة إلى شجرة فبكى وجلس، فقال له الصحابة: مالك يا خليفة رسول الله؟ قال: طوبى لهذا الطائر! يشرب الماء ويأكل من الثمر ثم يموت ولا حساب ولا عذاب، يا ليتني كنت طائراً]] إنها المحاسبة الدقيقة، إنه زيادة الإيمان في القلب.
أبو بكر الذي قال الرسول عليه الصلاة والسلام عنه كما في صحيح البخاري في كتاب الجهاد {إن للجنة أبواباً ثمانية فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد - إلى آخر تلك الأبواب- فيقول أبو بكر: يا رسول الله! هل يدعى أحد من أبواب الجنة الثمانية؟} لا يسأل إلا أبو بكر ولا يتقدم بالمسألة إلا أبو بكر، فيعلق ابن القيم على هذا السؤال ويقول:
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول
أي: دائماً تحب المركز الأول، دائماً في أول المصلين، وفي أول الصائمين، وفي أول الذاكرين، وفي أول المجاهدين، فيقول عليه الصلاة والسلام: {نعم -أي: يدعى بعض الناس من الأبواب الثمانية- وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر} ولكن ما جعله ذلك يركن إلى هذه الوعود وهذه الأخبار الصادقة من الرسول عليه الصلاة والسلام، في أنه من أهل الجنة كما صح ذلك في الأحاديث التي بلغت درجة التواتر، بل زاده خوفاً من الله، وتقوى لله، ومحاسبة لنفسه أمام الله.
يقول ابن القيم في روضة المحبين وهو يتحدث عن أبي بكر يقول: لما تولى أبو بكر الخلافة كان يخرج بعد صلاة الفجر كل يوم، فكان عمر يلحظه وينظر أين يذهب، فإذا هو يذهب إلى خيمة امرأة من المسلمين، فذهب عمر وراءه يوماً من الأيام، وخرج أبو بكر من الخيمة فدخل عمر وراءه من حيث لا يراه أبو بكر، فقال عمر وقد رأى عجوزاً عمياء حسيرة كسيرة داخل الخيمة: يا أمة الله! من أنت؟ قالت: عجوز حسيرة كسيرة عمياء، قال: ومن هذا الشيخ الذي يأتيكم؟ قالت: لا أعرفه، قال: ولم يأتي؟ قالت: يأتينا فيصنع طعامنا، ويكنس بيتنا، ويحلب شياهنا، فجلس عمر يبكي ويقول: [[أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر]].
إنها -والله- التقوى، ولا يمكن أن تكون إلا في قراءة سير أولئك القوم الذين رفع الله منزلتهم.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
وعند مسلم في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: {هل أصبح منكم اليوم أحد صائم؟ قال أبو بكر: أنا، قال: هل شيع أحدٌ منكم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، قال: هل تصدق أحد منكم اليوم بصدقة؟ قال أبو بكر: أنا، قال: هل عاد أحد منكم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا، قال: ما اجتمعت هذه الأمور في أحد في يوم واحد إلا دخل الجنة} وتقواه رضي الله عنه تأتي من هذا التعريف العملي للتقوى ليس الشفهي الإنشائي النظري الذي بدأنا به وأرعدنا ونشكو أحوالنا إلى الله، لكن أقول لنفسي وللمقصرين من أمثالي كما قال أحد التابعين -وأظنه ابن إدريس - لـ سفيان الثوري: [[يا أبا عبد الله! ذهب القوم -يعني: الصحابة- على خيول جادة ونحن على حمير قال: والله لتصلن بالقوم إذا سلكت ما سلكوا ولو كنا على الحمير]] مادام أننا على الخط وعلى الطريق التي هم عليها فسوف نصل.
وعند البخاري باب "الرجل يحب القوم" قال أنس: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث الناس فقام أعرابي وقال: متى الساعة؟ قال: ماذا أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة ولكني أحب الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المرء يحشر مع من أحب} والشافعي يقول:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواءً في البضاعة