الأصل في بيان الواجب أمام الشائعات والأخبار المزعومة قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] وقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أيضاً: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] قال ابن كثير رحمه الله: يأمر تعالى بالتثبت في خبر الفاسق؛ ليحتاط له، لئلا يحكم بقوله، فيكون في نفس الأمر كاذباً مخطئاً، فيكون الحاكم بقوله قد فعل ما نهى الله عزوجل عنه، وهذا من اتباع سبيل المفسدين.
وكثيراً ما أدت العجلة في إصدار الأحكام إلى الندم بعد وقوع الحكم، وكثيراً ما ندم بعض الأخيار من أحكامٍ أصدروها على بعض الناس على معلومات خاطئة وصلتهم، وقد وقع هذا كثيراً حتى في صفوف أهل الصحوة، وأهل الالتزام؛ حيث إن بعضهم يحكم على بعض بأخبارٍ ملفقةٍ لا أساس لها من الصحة.
لقد كثر -أيها الفضلاء- بين الشباب النقل عن الثقات المزعومين، وهم يبهمون أسماءهم، فيقول أحدهم: حدثني الثقة عن فلان عن فلان عن فلان ثم يروي لك خبراً، وإذا بحثت عن هذا السند على قانون الجرح والتعديل وجدته إما سنداً منقطعاً، أو معضلاً، أو مرسلاً، أو معلقاً، أو وجد الخبر من أحاديث بني إسرائيل.
وتجد المبالغات في النقل، فكثيراً ما حدثونا أن فلاناً من المشايخ يحفظ الكتب الستة؛ يعني: الصحيحين والسنن الأربعة، فلما بحثنا وجالسنا كثيراً من الذين ذكر عنهم ذلك، فما وجدناهم يحفظونها.
وبعضهم يزعم لك أن فلاناً يحفظ كتاباً بأسره، وأنه يحفظ الألوف المؤلفة من الأحاديث، فإذا جلست معه وشافهته لن تجد تلك المعلومات إلا خاطئة.
ومن ذلك أن كثيراً من الناس سامحهم الله ينقلون الخبر فيبترونه، أو يزيدون فيه، أو ينقصون منه، أو يؤولونه عن مقصد صاحبه؛ فيأتي الخبر مقلوباً لا أساس له من الصحة، ولا صدق، ولا أثر.
ومنها: أن أحدهم يعادي صاحبه وزميله لمجرد كلمة بلغته عن ذلك لم يتأكد من صحتها، أو من مقصد صاحبها؛ فيقع فيما نهى الله عزوجل، وتقع العداوات بين الأقران، بما فيهم الدعاة الفضلاء بسبب هذه الشائعات التي تنتشر.
وكان حقاً على المسلمين خاصة الدعاة التحري أمام الشائعات، والتريث في إصدار الأحكام، وأقرب قصةٍ مثلاً قتل واغتيال الشيخ جميل الرحمن رحمه الله في أفغانستان؛ فما أن اغتيل، ومرَّ على اغتياله ليلة واحدة إلا وأتى بعض الناس فقالوا: فلانٌ مسئول عن اغتياله وهو الذي قتله، قلنا: ما هو دليلك؟ فأتى بعمومات لا تغني، إنما هي من الظن: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [يونس:36].
وأنا هنا لست بصدد أن أبرئ، أو أتهم أحداً من الناس، وإنما أضرب بهذه القصة مثلاً في تعجل بعض الناس حتى في مثل هذه القضية الكبرى؛ قضية قتل قائد من قادات المجاهدين، ثم يعزى دمه ويلحق قتله بأحد القادة الفضلاء الآخرين، فقل لي بالله ما هو مستند هؤلاء؟ وما هو دليلهم؟ وما هو برهانهم؟ في نسبة هذا الجرم العظيم الذي ورد في الحديث القدسي، وأحياناً يرد من كلامه عليه الصلاة والسلام، وقد صححه كثير من أهل العلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {لو اجتمع أهل السموات والأرض على قتل امرئٍ مسلمٍ لكبهم الله جميعاً على وجوههم في النار} وفي الحديث الذي يصححه الشيخ الألباني: {لزوال الدنيا بأسرها أهون عند الله من قتل امرئٍ مسلم} والرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن نظر إلى الكعبة وهو يودعها فقال: {ما أشد حرمتك، وما أعظمك، ووالذي نفسي بيده إن المسلم أشد حرمة منكِ} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وإلصاق التهم دون تثبت شائع من قديم، فلما قتل عثمان رضي الله عنه وأرضاه، قتله الثوار المتمردون المخطئون المسيئون كل الإساءة، قال بعض المتعجلين، الذين يأخذون الأخبار من الشائعات: الذي قتله علي بن أبي طالب! لا إله إلا الله أبو الحسن يقتل عثمان، فوقف على المنبر أمام الناس وقال: [[أيها الناس: بلغني أن أناساً يقولون: قتلت عثمان، لعن الله من قتل عثمان، ومن شارك في قتل عثمان]]
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب
لئن كنت قد بلغت عني وشاية لمبلغك الواشي أغش وأكذب
وقس على ذلك من أمثالها كثير، وهي الأحكام المخطئة التي تعتمد على مجرد سماع الخبر، في اتهام بعض الجهات وبعض الأشخاص ولم نسألهم عن دليلهم في ذلك، وإنما يتعلقون بشبه وإيحاءات بعيدة، روي عنه عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس أنه قال لرجل: {أترى هذه -يعني: الشمس في النهار - قال: نعم.
قال: على مثلها فاشهد أو دع} رواه ابن عدي بسند ضعيف، وصححه الحاكم فأخطأ، والحديث ضعيف ولكن معناه صحيح لأصول الإسلام الثابتة في الكتاب والسنة؛ ولذلك ذكرته يصيغة التمريض، فإن أهل العلم إذا ذكروا أثراً ضعيفاً قالوا: يروى، ويذكر، فيعفون أنفسهم من مغبة مطالبتهم بسند، أو بالحكم على هذا الحديث.
والله عزوجل -كما سلف- يقول: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36] لا تقف أي: لا تقل، ولا تتحدث بما ليس لك به علم، ثم ذكر الله أن العبد سوف يحاسب على كلماته، وعلى أحكامه، تصرفاته فقال: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36].
قال الشاعر: وهي أبيات من قصيدة عظيمة، نسبت لـ ابن المبارك، يقول في بعض أبياتها:
وإذا صاحبت فاصحب ماجداً ذا عفافٍ وحياءٍِ وكرم
قوله للشيء لا إن قلت لا وإذا قلت نعم قال نعم
وانسب القول إذا ما قلته فعظيم منك إيراد التهم
وسوف يأتي خبر هذا البيت وشرحه إن شاء الله.
وأنا أقترح على إخواني الشباب خاصة لأنهم أهل المشاركة والتأثير، وأهل الكلمة المسموعة أن يعودوا فيما يطرأ عليهم إلى العلماء فيصدرون عن رأيهم، ويعودون عن مشورتهم.
وحبذا لو كان في كل مدينة دعاة بارزون، يعود إليهم الشباب وطلبة العلم فيسألونهم عن الأحكام، أو عما يقولون، أو عن موضوعات الخطب والمحاضرات وهو الأسلم.
وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {بئس مطية الرجل زعموا} وهذا في صحيح البخاري في كتاب الأدب؛ والمعنى: أن من جعل وسيلته زعموا دلَّ على أنه لا يتثبت، وأنه مظنة أن يكذب، وأن يخطئ في الأحكام.
واسأل كثيراً من الناس عن أحكامهم، تجدهم يبنونها على زعومات لا حقيقة لها، والحقيقة أن زعم في الغالب تنبئ عن الكذب {بئس مطية الرجل زعموا} والله يقول في القرآن: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن:7] يريد أن يبكتهم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مع العلم أنه ليس هناك إجماع عند أهل اللغة على أن زعموا تشير إلى الكذب، لا، بل إن سيبويه في الكتاب الذي هو في النحو كان ينقل كثيراً ويقول: وزعم الخليل؛ يقصد شيخه الخليل بن أحمد، ومعناه قال وصدق، ولكن الغالب أنها تدل على الكذب.
ودائماً أسانيد الناس: زعموا، وسمعنا، ويقولون، وقالوا، ونحو ذلك من الألفاظ التي هي صيغ تمريض، وقد كره الله للناس قيل وقال، وهي دلالة على كثرة النقل بلا روية، ولا تؤده، ولا تثبت، وعند مسلم في الصحيح قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع} إذا رأيت الرجل يحدث بكل قصة يسمعها، وكل مقالة تنمى إلى أذنه؛ فاعلم أنه سوف يكذب لا محالة، قال الإمام مالك [[لا يكون المرء إماماً إذا حدث بكل ما سمع]] وقال الإمام مالك رحمه الله أيضاً: [[ليس كل ما يُعلم يقال]].
فإنك تعلم معلومات ولكنك لا تستطيع أن تقولها.
وفي صحيح البخاري أيضاً: أن أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: [[حفظت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعاءين اثنين: أما الأول فبثثته في الناس -أي: علماً- وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم -وفي بعض الألفاظ: الحلقوم-]] أي: قطع رأسه، قال بعض الشراح كـ ابن حجر وغيره: ربما كانت من الأحاديث التي في خلفاء بني أمية التي أخبر بها عليه الصلاة والسلام، كالأحاديث التي حسنها الحافظ ابن حجر في الوليد بن يزيد الفاسق، وبعض الأحاديث في أشخاصٍ بعينهم، فلو حدث ها أبو هريرة لذهب رأسه إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم، ولا يسعه الكتمان عن علمٍ يحتاج إليه الناس، لكن يسعه أن يكتم علماً لا يحتاج له الناس، وليس كل علمٍ تطالب أن تبثه في الناس، أو لا واجب عليك أن تشرحه في الناس، لا، وإنما العلم الذي تحتاجه الأمة هو الذي ورد التهديد في كتمانه؛ لقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159 - 160] وقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران:187].
والإفراط في حسن الظن بالناس يصل بصاحبه إلى قبول خبر كل أحد، ولذلك عدّوا الحاكم صاحب المستدرك متساهلاً وكذلك ابن حبان والترمذي؛ فإنهم قبلوا أخباراً واهية، أذكر أن الحاكم قبل أحاديث موضوعة في المستدرك وجعلها صحيحة لحسن ظنه، وحسن الظن المفرط بالرواة وبالنقلة وبالناس يودي بصاحبه إلى أن يقبل الكذب، والله المستعان!
أحاديث لا نورٌ عليها ولا سند تناقلها بعض العجائز في البلد
وهذه مثل وكالة العجائز أنهم يقولون، وقلنا، وسمعنا، فإذا حققت تجد أصلاً لن تعود إليه.