Q يحصل بين بعض المسلمين خلاف ودعاوى ومطالب يترتب عليها الجفاء بين الجيران والقطيعة والبغض والظلم وغير ذلك، فما رأيكم وما توجيهاتكم لمن يريد التوبة والإنابة؟ وما الطريق لذلك؟
صلى الله عليه وسلم المشاكل التي يشكو الناس منها، والذنوب والمعاصي والخطايا التي في المجتمع لا يحصيها إلا الله.
تكاثرت الظباء على خراشٍ فما يدري خراشٌ ما يصيد
كل مسألة ذكرت -أيها الأخ الفاضل- تحتاج إلى محاضرة بل ومحاضرات ومجلدات وندوات، لأننا أصبحنا مثخنين بالجراح من الذنوب والخطايا، قطيعة الرحم، عقوق الوالدين، أذية الجار، السوء إلى المسلمين، انتشار الأغاني الماجنات، المخدرات، التبرج إلا عند من رحم الله، ضياع الأوقات، تفلت الشباب، ضياع السنة، عدم تدبر القرآن، عدم تذكر الله، الأيمان الغموس، الظلم، الحسد، الحقد، كلها ذنوب وخطايا، نشكو حالنا إلى الله، أي أصبح حالنا مثل حال المريض الذي في كل مكان من جسمه جرح.
مَنْ يَهُنْ يسهلِ الهوانُ عليه ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ
وأما ما ذكرت فمن أعظم ما يتساهل فيه خاصةً في القرى حقوق الجار، والمدن أحسن حالا في الجيران؛ لأنك غريب مع غرباء، فتريد أن تصلح الحال، كأنك تتذكر الوفاة، أما القرى فإنه منذ أن خلقنا الله ونحن نعرف جيراننا يميناً وشمالاً وأماماً وخلفاً، فأصبح بينهم من القطيعة ما لا يعلمه إلا الله، تجد الجار يؤذي جاره، ولا يأمنه، ومن نكد الحياة أن يجمع الله بينك وبين جار سوء.
في الحديث: {أن رجلاً أتى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام قال: يا رسول الله أشكو إليك أذية جاري، قال: ماذا فعل؟
قال: إن غبتُ لم آمنه، وإن حضرتُ آذاني، هتك عرضي، وأخذ مالي وظلمني.
فقال عليه الصلاة والسلام: اصبر لجارك، علَّ الله أن يهديه! فذهب وصبر قليلاً، لكن ما هداه الله، وعاد يشكو إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال: خذ زوجتك وأطفالك ومتعاك وانزل في سكة من سكك المدينة -في الطريق- فأخذ زوجته وأثاثه على ظهره ونزل وجلس في السكة، فأصبح الناس يسرحون عليه ويروحون، يغدون فيقولون: مالك يا فلان؟!
فيقول: آذاني جاري حتى أخرجني، فيقول الناس: لعنه الله! فيصبح الصابح، فيقول: مالك يا فلان؟ فيقول: آذاني جاري، فيقولون: لعنه الله! ويمسي الممسي، فيقول: مالك؟ فيقول: آذاني جاري، فيقولون: لعنه الله! فسمع ذلك جاره، وقال: أتوب إلى الله، والله لا أعود إلى ذلك}.
ولذلك فقد يبلغ الحد ببعض الناس إلى أنه لا يذكر الله عز وجل تماماً، ويسفك حق الجار.
والجاهليون كان من ضمن ما يتمادحون به حفظ حقوق الجار، يقول عنترة:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
يقول: من كرم نفسي ومن شهامتي ومن مروءتي، إذا بدت جارتي غضضت طرفي حتى تدخل البيت، وليس عنده كتاب ولا سنة، ولا يؤمن بالله ولا اليوم الآخر.
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
ولذلك وجد في أهل الإسلام من يحفظون الجار، وأذكر على سبيل المثال أبا حنيفة، كان عالم المسلمين، وكان من أعبد عباد الله، ومن أزهد عباد الله، أتدرون ماذا كان يفعل به جاره؟
الجدار بالجدار يأتي أبو حنيفة وهو بعد صلاة العشاء يريد أن يسبح الله، ويصلي ويبكي ويدعو ويقرأ القرآن، فهذا الجار أعزب، وما عنده إلا نجر يضرب به ويقول:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر
وأبو حنيفة لا يستطيع أن ينام، ولا يعرف كيف يقرأ أو يصلي، لكنه يصبر ويحتسب، وبعد ليلة من الليالي الطويلة لم يسمع أبو حنيفة الصوت، انتظر فما سمع الرقص ولا سمع ضرب النجر ولا سمع الدربكة، فذهب وطرق على الباب فما أجابه أحد، فسأل الجيران: أين فلان؟
قالوا: أخذه العسس -شرطة السلطان- قال: سبحان الله! جاري يأخذونه ولا يخبروني، ثم ركب بغلته في الليل ولبس ثيابه، واستأذن على السلطان وسط الليل، فقال الجنود للسلطان: أبو حنيفة يريدك -لأنه عالم الدنيا - فقام السلطان من نومه، والتقاه عند الباب يعانقه، وقال: يا أبا حنيفة لم لم ترسل إلينا؟ نحن نأتيك ولا تأتينا!
قال: كيف أخذتم جاري ولم تخبروني؟
قالوا: إنه فعل وفعل، قال: ردوا عليّ جاري، قالوا: لو طلبت الدنيا لأعطيناك الدنيا، فركب جاره معه على البغلة، وأخذ جاره يبكي، قال أبو حنيفة: مالك؟
قال: آذيتك كل هذه الأيام والأعوام والسنوات، وما تركتك تنام ولا تصلي ولا تقرأ، ولما فقدتني الليلة أتيت تتشفع في، أُشْهِدُ الله ثم أشهدك أني تائب إلى الله.
ولذلك كانوا يدعون الناس بأخلاقهم وبتعاملهم.
وهذا يهودي سكن بجانب عبد الله بن المبارك -أحد العلماء الصالحين- فكان عبد الله بن المبارك إذا اشترى لحماً من السوق بدأ بأولاد الجار اليهودي، نحن لا نقول: نبدأ بأولاد اليهود لكن بأولاد المسلمين، ونحن لا نقول: أعطوا الناس لحماً أو اكسوا أبناء الناس، لكن نكف أذانا فقط، نعم.
مكانك تحمدي أو تستريحي
عبد الله بن المبارك كان إذا اشترى لحماً أعطى أبناء الجيران، وإذا اكتسى كسا أبناء جيرانه، وإذا أخذ فاكهة بدأ بهم، فأتى أناس من التجار يشترون دار اليهودي، فقال: داري ثمنها ألفا درهم، أما الألف الأولى فقيمة الدار، وأما الثانية فقيمة جوار عبد الله بن المبارك، فسمع عبد الله بن المبارك، وقال: والله لا تبيعها، هذا ألف درهم وابق عندي جاراً لي، ثم قال عبد الله بن المبارك اللهم اهده إلى الإسلام، فما أصبح اليوم الثاني إلا وقد أسلم لله رب العالمين.
فمسألة الجار لا بد أن ننتبه لها، يقول عليه الصلاة والسلام {ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه}.