إن الحمد لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ ونستهديه، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وصحبه وَسَلَّمَ تسليماً كثيراً، صلى الله عليه كلما اجتمع جيلٌ من أجياله يتدارسون حديثه، وصلى الله عليه وسلم كلما اهتدى جيلٌ بنور ما ترك من ميراث، وصلى الله عليه وسلم كلما تاب تائب على شريعته المطهرة، ولقي الله بسنته الغراء.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، ولا زلنا في موكب محمد صلى الله عليه وسلم، نعيش مع أحاديثه، ونتدارس عبره وعظاته التي تركها للناس برهاناً وشريعة وسنة، تتحدى كل سنة وكل شريعة من شرائع البشر أو من قوانين الأرض، والرسول عليه الصلاة والسلام لم يترك منحى من مناحي الحياة -أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى من الطريق- حتى تحدث للأمة فيه، تحدث في الطعام والشراب، وفي اللباس والمنام، وتحدث في الصلاة والشرائع والعقائد والمعاملات والأخلاق والآداب والسلوك، حتى مات وما ترك خيراً إلا دلنا عليه، وما ترك شراً إلا حذرنا منه، فمن سار مسيرته فليحمد السُرى، ومن لم يفعل فلا يلومنّ إلا نفسه.
وهذا الحديث اتفق الشيخان الجليلان البخاري ومسلم على إخراجه، هذا الحديث الأغر لفظه وجيز قصير، لكنه شهير منير، يقول عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه وأرضاه: {كنت غلاماً في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك}.
هذا حديث في آداب الطعام يتبعه أكثر من خمسين حديثاً كلها صحيحة في جانب الطعام من حياة المؤمنين، الذي ما ترك صلى الله عليه وسلم فيه جانباً كغيره من الجوانب حتى ملأه إرشاداً وحكمةً ونوراً، يقول عمر: {كنت غلاماً في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك} رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
أما عمر بن أبي سلمة فهذا الرجل أسدي، وهو ابن أم سلمة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو ربيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم عاش في حجره، فتلقن الأدب، ورضع الحكمة، واستسقى بنور الوحي الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولد قبل الهجرة بسنتين، وتوفي عام ثلاث وثمانين للهجرة، بعدما شاخ في الإسلام، وهرم في الإسلام في الصلاة والصيام.
مفاد القصة: أن الرسول عليه الصلاة والسلام من تواضعه كان يدنو على مائدته الكبير والصغير، والأعرابي والحاضر، فكان لا يأنف صلى الله عليه وسلم أن يأكل مع الناس جميعاً من تواضعه، خلاف بعض الناس وأرباب الدنيا الذين لهم مجلس خاص، وأكل خاص، وكلام خاص، أما هو فكلامه عام صلى الله عليه وسلم، ووجه عام، جلس معه هذا الفتى وهو غلامٌ يافع لم يبلغ رشده، والغلام هو الذي ناهز الاحتلام، قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على مائدته، فأخذت يدي تطيش في الصحفة، والصحفة: إناء واسع رحراح متسع يأخذ كمية من الطعام، قال بعض أهل اللغة: تكفي للأربعة والثمانية والعشرة وتكفي الجمع الغفير.
فهذا الغلام ما قرأ في الأدب شيئاً، وما علم شيئاً، لماذا؟
لسببين: الأول: أنه صغيرٌ في سنه، والعاقل قد يرشد في أكله وفي كلامه وفي طعامه وفي أخذه وعطائه.
والثاني: أنه من الأمة العربية التي ما عرفت شيئاً حتى عرفها محمد صلى الله عليه وسلم، وما علمت شيئاً حتى علمها محمد صلى الله عليه وسلم، من الأمة العربية التي عاشت مخفوضة الرأس، حتى رفع رأسها محمد صلى الله عليه وسلم.
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقع وهو قائد أمة جبت الكنوز فكسرت أغلالها
يقول الله جل ذكره: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] كانوا في ضلال في العقائد، وفي العبادات والمعاملات، حتى الأكل والشرب ما يحسنوا أن يأكلوا ويشربوا، فأتى هذا الغلام فطاشت يده في الصحفة، أي: لعبت في الصحفة يمنة ويسرة، شمالاً وجنوباً، وشرقاً وغرباً، فقال عليه الصلاة والسلام له: {يا غلام!} وفي الصحيحين، من رواية وهب بن كيسان: {يا بني! أدنُ، وسم الله، وكل بيمنك، وكل مما يليك} ورواية الصحيحين الأخرى من طريق الزهري {يا غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك}.
والغلام قلنا: الفتى اليافع الذي ناهز الحلم، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ} [الكهف:74] انطلق موسى والخضر فلقيا غلاماً مناهزاً للحلم فقتله الخضر، فلامه موسى في قصة طويلة، ثم قال وهو يفصل له
صلى الله عليه وسلم { وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} [الكهف:80] فهنا غلام ما بلغ رشده قتله.
فلماذا يقتله؟
للفائدة: قال: لأنه خاف أن يرهق أبويه طغياناً وكفراً -يدخلهم في الكفر والعياذ بالله- وهذا من العلم الذي اختصه الله بالخضر، وهذا ليس بسط هذه المسألة، إنما قال: {يا غلام! سم الله}.