لكن ما كفى عمر أنه يخرج إلى الشارع، ويكلم الأطفال، ويقف مع العجوز، وينام على الرصيف، بل المفاجأة الكبرى أن هذا الإمام صاحب الثوب المرقع, والبطن الذي يقرقر يوم الجمعة من الجوع؛ تهتز له الأكاسرة والأباطرة والملوك, يغم عليهم من ذكره إذا ذكر؛ يقول محمود غنيم:
كم صرفتنا يدٌ كنا نصرفها وبات يملكنا شعبٌ ملكناه
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيّه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه
لماذا؟ لأنه خاف الله، فخوف الله منه كل شيء.
أتى الهرمزان إلى المدينة ليفاوض عمر، وهذه القصة صحيحة عند المؤرخين، فأتى وفي عقله مشكلة كيف يقابل عمر؟
وكيف يجلس؟
ومن يدخل على عمر؟
فدخل المدينة وإذا البيوت من طين، قال: أريد قصر الخليفة؟
قالوا: لا قصر له، قال: أريد بيته، قالوا: هذا بيته، فوجد بيته كبيوت الناس من طين، فأتى وطرق الباب, فخرج ابن لـ عمر فقال: ماذا تريد؟
قال: أريد الخليفة، أليس له حراسة؟
قالوا: لا حراسة له، قال: أين هو؟
قالوا: التمسه في المسجد فلعله نائم فيه، فذهبوا إلى المسجد فما وجدوه, وانحدر أهل المدينة وراء الهرمزان , كان عليه ذهب وديباج، وهذا شيء من التكنولوجيا ما عرفه الصحابة، فذهبوا وراءه وبحثوا، وبعد تعب شديد وجدوه تحت شجرة نائماً, وإذا الدرة بجواره، وهو في عميق النوم، قال: أهذا الخليفة؟
قالوا: هذا الخليفة، قال: أهذا عمر؟
قالوا: هذا عمر، قال: أهذا أمير المؤمنين؟!!
قالوا: هذا أمير المؤمنين، فوقف مبهوتاً يقول: حكمت فعدلت فأمنت فنمت، لكن حافظ إبراهيم يترجمها قصيدة:
وراع صاحب كسرى أن عمراً بين الرعية عطلاً وهو راعيها
رآه مستغرقاً في نومه فرأى فيه الجلالة في أسمى معانيها
فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملاً ببردة كاد طول العهد يبليها
فقال قولة حقٍ أصبحت مثلاً وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها
أمنت لما أقمت العدل بينهمُ فنمت نوم قرير العين هانيها
كان استالين إذا مر بشوارع موسكو دخل الناس البيوت خوفاً من أنفاسه, لا يتنفس متنفس وهو في الشارع، فإذا انتهى موكبه خرجوا إلى الضياء ينظرون هل بقوا أحياء أم لا؟
ويبقي الله عليهم حياتهم, ولكنها كحياة الحيوانات.