حرص عمر على الرعية

أولاً: يبدأ البيعة بكلمة باكية ويطلب من الناس أن يبحثوا عن خليفة إذا لم يكن هو أهلاً لذلك، لكن الأمة تجمع على أنه أهل لهذه الخلافة وزيادة, وأن أبا بكر قد رضيه, والرسول عليه الصلاة والسلام مات وهو عنه راضٍ، يقول عبد الرحمن بن عوف: [[خرجت مع عمر رضي الله عنه وأرضاه ذات ليلة، فمشينا حتى أتينا إلى خيمة, فسمعنا بكاء صبيٍ من وراء الخيمة, فقال عمر: هلم يـ ابن عوف , فمضيت معه إلى بيت المال، فأخذ كيساً من دقيق, وكيساً من زبيب, وحمل شحماً، فقلت: أحمله عنك يا أمير المؤمنين!

قال: أنت لا تحمل أوزاري يوم القيامة، وذهب بالكيس وبما فيه ودخل الخيمة ثم أشعل النار, وركّب القدر, وصنع العشاء للأم وللطفل، فقالت له: والله إنك خيرٌ من عمر بن الخطاب]] وهو عمر بلحمه وبشحمه, وبإيمانه ورسوخه وعدله هكذا يقدم الطعام للأطفال في نواحي المدينة، لأنه راعٍ يخاف من الراعي الكبير.

بكاء الطفل أسهر مقلتيكا ينادي حسرة يشكو إليكا

سهرت لجوعه وبكيت خوفاً من الديان بل خوفاً عليكا

قارن هذا مع سيرة الحجاج الذي جعل في السجون مائة ألف, وكان يمر إلى صلاة الجمعة، فيسمع تضاغي المحبوسين، فيقول: اخسئوا فيها ولا تكلمون.

أين الكتاب والسنة؟

أين خلافة الرسول صلى الله عليه وسلم؟

أين الأثر الذي تركه صلى الله عليه وسلم برسالته التي سعدت بها الدنيا؟

إنها ليس لها أثر على حياة الحجاج، ولكن عمر يأبى هذه السيرة المتخلفة, التي إنما هي ضربة في صميم الإسلام، وتشويه لجمال الإسلام.

وهذه قصة يرويها أسلم مولى عمر وهي في البداية والنهاية قال: خرجت مع عمر ذات ليلة وهو يتفقد الفقراء -ما كان ينام الليل-.

نامت الأعين إلا مقلةً تذرف الدمع وترعى مضجعك

تقول زوجته عاتكة بنت زيد: [[قلت: يا أمير المؤمنين! لو نمت فإنك لا تنام في الليل ولا في النهار، قال: لو نمت في الليل ضاعت نفسي، ولو نمت في النهار ضاعت رعيتي]] فمرّ هو وأسلم إلى الخيمة، فوجد امرأة تسهر صبيانها من الجوع الشعب جائع، والأمة في برد ومرض، ولكن الخليفة يقف على الأبواب، وإذا بقدرٍ فيه حصى وتلهيهم به حتى ينامون, ثم قالت: [[آه يا عمر بن الخطاب -أو كلمة تشبهها- أي: أنت قتلت الأطفال, بعدم إنفاقك على الأطفال]] وهذا في عام الرمادة، ومن أين ينفق عمر؟ انتهت الميزانية، أنفق دموعه وكل ما يملك، حتى أصبح بطنه على المنبر يقرقر جوعاً, فيقول لبطنه: [[قرقر أو لا تقرقر, والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين]].

قارن بين هذا الموقف وموقف إسماعيل الخديوي! ففي تاريخه أنه كان عنده أربعمائة جارية في القصر، وكان أهل مصر ينامون على الأرصفة, لا يجدون كسرة خبز، أما عمر فيقف على المرأة، ويذهب إلى بيت المال, ويأتي فيصنع الطعام ويقدمه, ثم يفرض للصبية من بيت المال طعاماً ورزقاً, ويصلي الصبح بالناس ويقرأ: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:24] فيبكي حتى يرتج المسجد بالبكاء، إنها تلمذة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو لم يفعل عمر هذا الفعل؛ لما كان أدَّى الأمانة الربانية, والمنهج الرباني الذي خرج للناس في هذه الصورة العجيبة.

وروى أهل السير والتراجم في ترجمة عمر رضي الله عنه وأرضاه: أن علي بن أبي طالب أشرف ذات ظهيرة من نافذة بيته فرأى عمر يطارد بعيراً من إبل الصدقة، وكان يطلي الإبل بنفسه، فندَّ بعير منها, فذهب عمر وراءه يهرول هرولة, فشرد البعير, فشد عمر من الجري, وأشرف علي وقال: [[يا أمير المؤمنين! أنا أكفيك البعير، قال: لن تكفيني أنت يوم القيامة]].

وعاد وحبس البعير ورده إلى مكانه.

عفاءٌ على دنيا رحلت لغيرها فليس بها للصالحين معرج

كأنك لما مت ماتت قبائلٌ أأنت امرؤ أم أنت جيشٌ مدججُ

لكن لما انطمست هذه السيرة والتربية الربانية, روى لنا التاريخ المضحك المبكي في القرن الثاني -ما أسرع أن تخلفت الأمة عن العدل! ما أسرع ما نسيت منهج الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم! وإذا برجل ينسلخ من معالم العدل والربانية والسيرة الخالدة.

روى التاريخ أن الوليد بن يزيد ملأ بركة طيباً, وشرب الخمر، فلما سكر قال: أريد أن أطير, قيل له: طر إلى جهنم، فقفز في البركة مخموراً, وهو يقول: أنا الملك الهياب، أنا المقدم الشاب.

أي هياب؟

وأي شاب؟

أهذه رسالة الأمة؟

أهذه الخلافة؟

أهذه هي قيادة أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟

لقد وصل العوج إلى هؤلاء لأنهم ما استضاءوا بنور الوحي الذي أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقل للعيون الرمد للشمس أعينٌ تراها بحق في مغيبٍ ومطلع

وسامح عيوناً أطفأ الله نورها بأبصارها لا تستفيق ولا تعي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015